الخرطوم: ماجد القوني
بالقرب من إحدى المدارس الأساسية، وضعت الحاجة (فاطمة) صينيتها على (كرتونة) فارغة، ووضعت ما يحويه كيسها الممتلئ
بما يحبه الأطفال، بعض المصاصات، تسالي، فول، حبوب شوكولاتة، نبق وساندوتشات طعمية، وبدأت تباشر يومها قبل أن يُقرع جرس الطابور الصباحي، قالت وفي صوتها بعض نبرات الأسف: السوق أقوى من قدراتي وأمكانياتي ومن هذه البضاعة التي تتقوّم عليها حياة أبنائي الخمسة، والتي لا يتجاوز رأسمالها الـ(10) ألف جنيه، الأرباح لا تتجاوز الـ(4) ألف جنيه هذا المبلغ كان يكفي لأعاشتي وأبنائي ليوم كامل وربما يومين، الآن لا يكفي لتوفير وجبة للأطفال، بعد أن فقدت زوجي لا أحد يساعدني على اعاشة أبنائي ودفع أجرة المنزل، قبل أربع أو خمس سنوات كان الأمر سهلاً بالنسبة لي، لكن مع الزيادات الجديدة عجزتُ في تدبير الأمر.
أزمات عالقة
أكثر المتفائلون ذهبوا يومها إلى أن السودان بثرواته المُتعددة، لن يفشل في تجاوز آثار صدمة انفصال جنوبه في التاسع من يوليو من عام 2011، بكل موارده النفطية التي كانت تُمثل حوالي 70% من موازنة الدولة الاتحادية، الانفصال تسبّب في خروج أكثر من نصف هذه النسبة من الموازنة العامة، وقتها دُقت نواقيس الخطر في المؤسسات الاقتصادية، والتي ترجمها (البشير) في ذات عام (الانفصال) أمام مؤتمر القطاع الاقتصادي لحزب المؤتمر الوطني “بأن حكومته تعمل على معالجة الآثار الاقتصادية لانفصال جنوب السودان الذي أدى إلى حدوث فجوة في الموازنة العامة ورفع معدل التضخم، وعجز الموازنة العامة”. تداعيات استشعرتها (حكومة) البشير منذ الشهور الأولى للانفصال، لكن الخروج منها لم يك بمقدور المؤسسات الاقتصادية ليتراجع الميزان التجاري، وزيادة نسبة العاطلين عن العمل، زيادة أسعار السلع الاستهلاكية، زيادة الضرائب، تقليل وانعدام الصرف على الصحة والتعليم، آثار مازالت عالقة بالاقتصاد السوداني، بعد أكثر من أحد عشر عاماً..
وبالرغم من بعض مظاهر العافية التي بدأت تطلُ على جسد الاقتصاد السوداني، في بداية الفترة الانتقالية، إلا أن انقلاب الخامس والعشرون من أكتوبر قطع الطريق أمام كثير من القرارات والتشكّلات الاقتصادية التي بدأت في ترميم ما دُمر على أرض الواقع. ليُعيد الأوضاع الاقتصادية لما قبل الحادي عشر من أبريل 2019، حينها عاد التدهور الاقتصادي بسبب الانقلاب، وتبعاته من توقف الدعم الخارجي وتأثير الحركة الاقتصادية والتجارية.. وبعد ثلاثة أعوام من الثورة، تزداد الأوضاع الاقتصادية تأزماً، وتتحول الدوائر الاقتصادية للدولة آلية لجمع الضرائب والاتاوات والبحث عن طُرق للخروج من عمق الأزمة، من خلال (مُباصرة) الاقتصادي اليومي.
ضُعف القوة الشرائية
تراجع القوة الشرائية إحدى الأزمات التي تُحيط بواقع التجار (جُملة وقطاعى)، تاجر اللحوم يوسف عبدالله، ذهب إلى أن القوة الشرائية تراجعت بشكل كبير في الفترة الأخيرة، وبالكاد تنتهي البضاعة التي تناقصت لأكثر من النصف، والأرباح لا تكفي مصاريف اليوم من ترحيل وضرائب. معاناة الشعب ينقلها (يوسف) تاجر (الكمونية) الوجبة التي كانت أقل سعراً مقارنة باللحوم الأخرى، حيث يقول: معاناة الشعب السوداني أصبحت كبيرة، والذين يطلبون المساعدة أصبحوا أكثر من المشترين.
في ذات الاتجاه يمضي (المعلم) عبدالملك محمد صاحب محل اكسسوارات الموبايل ومعلم المرحلة الأساسية، مؤكداً ما ذهب إليه سابقه (يوسف)، مضيفاً: الظروف الاقتصادية أصبحت ضاغطة جداً، المرتبات لا تكفي لذا كان لابد من البحث عن دعم للمرتب، وللأسف مع الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها البلاد أصبحت الحركة الشرائية ضعيفة ومجال اكسسوارات الموبايل أصبح بعيداً عن اهتمامات المواطن، الذي أصبحت همومه تتعلق بتوفير الطعام، ويمضي عبدالملك: البلاد مُغلقة تماماً وليس هناك أي حلول تبدو في الأفق.
بائع الصُحف اليومية حماد موسى يشتكي من ذات مشكلة ضُعف القُوة الشرائية، وأن الناس لم تعد تهتم بشراء الصُحف، ربما بسبب الوسائط المُتعددة، أو لأن الناس باتت تهتم بتوفير ما تأكله أكثر من القراءة ومتابعة ما يحدث عبر الصُحف، في السابق كنت أبيع المئات من الصُحف، لكن الوضع اختلف ونادراً أن يأتي أحدهم لشراء جريدة.
يوافقه في الرأي سائق ركشة، في أن ” البلد فكت” وغابت عنها كل ملامح الدولة، عهد الرئيس المخلوع كان أكثر استقراراً على المستوى الاقتصادي، لكن الآن الدولة في مرحلة انهيار تام، ويضيف موسى: في السابق كان ربح اليوم (3 – 4) ألف يكفي أسبوع وأسبوعين، الآن دخل (10) ألف لا يكفي لتسيير يوم واحد
اتساع دائرة الفقر
الباحث الاقتصادي نورالدين عبدالله ذهب قائلاً: الإنقاذ فشلت في المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وتطويره بالرغم من وجودها لأكثر من ثلاثين عاماً ودمرت الاقتصادي بالاعتماد على الموارد البترولي وإهمال الموارد الأخرى، وفشلت المعالجات التي وضعتها لزيادة إيرادات الميزانية وتوسيع القاعدة الضريبية وخفض الإنفاق الحكومى وتنويع الصادرات وزيادة سلع الصادر، وتشجيع المستثمرين لجذب رؤوس الأموال من الخارج، مما جعل السودان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع معدل التضخم وندرة العملة الصعبة وانخفض سعر صرف الجنيه السوداني إلى مستوى مروّع، وترتب على انفصال جنوب السودان خروج نصيب حكومة السودان من عائدات بترول الجنوب والتي كانت تساوي حوالي 80 بالمائة من كل عائدات البترول.
ويمضي عبدالله: حكومة (حمدوك) بدأت بالفعل عبر العديد من السياسات الاقتصادية، للخروج من عمُق الأزمة واستقطاب الدعم الخارجي عبر برنامج (ثمرات) والتوقيع على عدد من المشاريع الاستثمارية، لكن الانقلاب قطع الطريق أمام الدولة المدنية، وتراجع الوضع الاقتصادي للأسوأ، وانعكس ذلك على معاش المواطن وقدرته على توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ومع ضُعف الأجور في مواجهة الأسعار أصبحت 60% من الأُسر السودانية تعتمد وجبة واحدة في اليوم، والتخلي عن كثير من أساسيات الحياة، منها التعليم والصحة.
استقرار الفترة الانتقالية
توقع خُبراء إلى أنه لن تستطيع الحكومة مقابلة تعهداتها الداخلية في اتفاقيات السلام تجاه تعمير وتأهيل وتنمية مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، وسيجر ذلك عليها بعض المشكلات والاحتقانات السياسية أو النزاعات المكشوفة. وقد لا تتمكن الدولة من الوفاء بمستحقاتها تجاه الديون الخارجية مما يشكل عليها بعض الضغوط وربما يحرمها من أية قروض جديدة، وإزاء مثل هذه الأوضاع المتقلبة قد تضطر الدولة لزيادة الضرائب والرسوم الجمركية دون أن تزيد الأجور بنفس النسبة، وهذا يعني زيادة العبء المعيشي على الطبقات المتوسطة والضعيفة التي ظلت تعاني لسنوات من الضائقة المعيشية ولم تتحسن أحوالها حتى بعد تدفق عائدات البترول. ويصب ذلك في اتجاه زيادة الاضطرابات السياسية.
المُحرر
أزمة الاقتصاد السوداني.. لافتة عريضة تندرج تحتها الملايين من قصص الفقر الذي بدأ يتمدد خلال العامين الماضيين، أسر في مهب الريح تحاصرها الاحتياجات، ومرتبات لا تقي من الفاقة، تُرى أي المخارج يجب أن يسلكها القائمون بأمر الاقتصاد؟ وهل يقوى قادة الانقلاب على (معافرة) ما صنعت أيديهم..؟ وحيث كان (المخلوع) يلجأ لبعض الدول لفك أزماته، ما بال الطريقُ يبدو مُغلقاً أمام العساكر..؟