الخرطوم : خالد فتحي
ثمة تساؤلات عدة تتحرك في فضاء استهداف وقتل المتظاهرين السلميين بالسودان، والذين ارتفع عددهم بطريقة غير مسبوقة منذ وقوع انقلاب 25 أكتوبر2021، وعلى رأس هذه التساؤلات: لماذا تلجأ الشرطة وغيرها من القوات الأمنية والعسكرية للعنف والقتل منذ الوهلة الأولى، دون التدرّج في استخدام القوة حسب القوانين المحلية والمواثيق المتعارف عليها دوليا حيال التعامل مع الاحتجاجات الشعبية؟
وما هي دواعي تعذيب المُتظاهرين بعد الاعتقال؟! وهل استخدام العنف المفرط والقوة المميتة، سلوك ممنهج ومقصود لقتل وإصابة قادة الحراك الجماهيري وبث الخوف في نفوس الجماهير كي لا تعود إلى الشوارع مرة أخرى؟ أم أنّ هناك أهدافا أخرى غير معلنة؟!
أيضا لماذا تتعثر عمليات تعقب الجناة أو تمضي ببطء شديد؟!!
فحتى القضايا التي نظرتها المحاكم وصدرت بها إدانات لم تشهد تنفيذا للعقوبة؛ رغم مضي وقت طويل على صدور قرارات الإدانة واستنفاد المدانين لكل مراحل التقاضي، مثل قضية تعذيب وقتل المعلم أحمد الخير.
مجازر وحشية..!
ارتكبت السلطة الانقلابية القائمة مجازر مروعة بحق المتظاهرين بالعاصمة والولايات، منذ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب، حيث كانت حصيلة تلك المجازر (116) قتيلا وآلاف المصابين، بحسب تقارير موثقة أصدرتها لجنة أطباء السودان المركزية ومنظمة حاضرين، اطلعت عليها “دارفور 24”.
تلك التقارير الموثوقة ذكرت أنّ الشرطة وبقية الأجهزة العسكرية والأمنية لم تتورع عن استخدام القوة المميتة، وارتكاب المجازر الوحشية بحق المتظاهرين العُزّل؛ كما حدث في مجزرة 17 نوفمبر بالخرطوم بحري، والتي راح ضحيتها (15) متظاهرا، وهي أكبر حصيلة قتلى في يوم واحد منذ اندلاع شرارة الثورة السودانية في ديسمبر 2018م، إضافة إلى قتل ما لا يقل عن سبعة متظاهرين بأمدرمان في “مظاهرات 13 نوفمبر”.
مظاهرات 30 يونيو..!
وحسب بيان لجنة أطباء السودان – تلقته “دارفور 24”- فإنّ مظاهرات 30 يونيو التي تعد الأضخم عددا واتساعا جغرافيا منذ وقوع الانقلاب شهدت مقتل (9) أشخاص، كما سجلت أكبر حجم إصابات إذ بلغت حصيلتها (629) إصابة بالعاصمة والولايات، بينها (35) إصابة بالرصاص الحي و(64) حالة إصابة في الرأس بعبوات الغاز المسيل للدموع، بجانب (23) حالة إصابة بطلق ناري متناثر (مرجّح إنه سلاح خرطوش)، و(10) حالات دهس بعربات تتبع للقوات النظامية، و(12) حالة إصابة في العين، إضافة إلى حالة طعن بآلة حادة في الكتف، وحالات اختناق عديدة وإصابات أخرى متفرقة في الجسم نتيجة التصويب المباشر لعبوات الغاز المسيل للدموع والرشق بالحجارة أو الضرب بالهراوات والتدافع.
العدالة والاستقرار السياسي..!
يقول المحامي المعز حضرة لـ (دارفور24) إنّ منهج السلطة القائمة يؤكد استمرار عمليات القتل خارج القانون، والغياب الكامل لأجهزة العدالة، حيث أصبحت القوات العسكرية والأمنية هي التي تعتقل وتأمر بإطلاق سراح الثوار من عدمه.*
يضيف حضرة:”أقول بصدق أنّ السودان طيلة فترته السياسية لم يمر بمثل هذه المرحلة؛ حتى أنّ الشرطة صارت ترفض تنفيذ قرارات النيابة بإطلاق سراح المعتقلين، وهذا انتهاك صريح للقانون ولكل المبادئ العدليّة التي يمكن أن تُبنى عليها دولة محترمة.*
نقطة معتمة..!
تلك الشواهد والمؤشرات تؤكد أنّ استخدام القوة المميتة مسألة ممنهجة ومقصودة من قبل الشرطة وبقيّة أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية، وبالطبع هي ليست صدفة أو تصرفات تفلتات فردية معزولة، المراقب لمجريات الأمور يجد أنّ السلطة القائمة تقوم بقطع خدمة الإنترنت والاتصالات بكافة أشكالها، وتحويل البلاد إلى “نقطة معتمة” تمهيدًا لارتكاب المجازر الوحشيّة على غرار ما حدث في مذابح 13 نوفمبر بأمدرمان و17 نوفمبر في الخرطوم بحري و30 يونيو في العاصمة والولايات.
أيضا نجد أن أكثر من (90) متظاهرا تم قتلهم بواسطة استخدام الرصاص الحي و بإصابات مباشرة في الرأس والعنق والصدر والبطن، وهذا يؤكد أنّ الذين يطلقون الرصاص يعلمون تمام العلم أنّ الموت نتيجة راجحة وليست محتملة” shoot to kill”.
عمليات إطلاق النار لا تتوقف على قوة الشرطة على الأرض وحدها؛ ففي أكثر من مناسبة تداول ناشطون بمواقع التواصل بالسودان مقاطع تظهر قناصة بالشوارع الرئيسية وفوق المباني، يقومون باستهداف المتظاهرين بالرصاص الحي.
أسلحة ثقيلة ومحرمة دوليا!
جرائم السلطة لا تقف عند ذلك الحد، فهناك أدلة عدة على أنّها توسّعت في استخدام الأسلحة الثقيلة والمحرمة دوليا لقمع المتظاهرين جنبا إلى جنب مع استخدام الرصاص الحي والمطاطي والقنابل الصوتية وقنابل الغاز المُسيّل للدموع و مسدسات الليزر التي تسبب كسوراً في الأيادي، والأسلحة البيضاء كذلك.
لجنة أطباء السودان المركزية ذكرت في بيان رسمي لها أن ثمانية متظاهرين قُتلوا بسلاح (الخرطوش) المحرم دوليا، وأصيب حوالي 747 آخرين خلال مشاركتهم في الاحتجاجات الرافضة لهيمنة الجيش على السُّلطة منذ 25 أكتوبر.
وتتمثل خطورة سلاح (الخرطوش) والذي أسماه الأطباء بـ “القاتل الجديد“، في تناثر مقذوفاته داخل جسم المصاب وانتشارها داخل الأحشاء وقرب الشرايين والأوردة في الصدر والبطن والرأس؛ مما يصعب معه التدخل الجراحي.
القوة المميتة..!
الدكتور علاء الدين عوض نقد، اختصاصي الجراحة العامة وعضو مؤسس للجنة الاستشاريين والاختصاصيين وعضو المكتب الموحد للأطباء قال لـ”دارفور 24″: الإصابات التي وقعت بعد إنقلاب 25 أكتوبر تختلف كثيرا عن السابق، الإصابات مميتة، وتم فيها استخدام كثيف جدًا للأسلحة الثقيلة كالدوشكا والأسلحة المُحرمة دوليًا كالخرطوش واستخدام الرصاص الحي بغزارة؛ منذ بداية الموكب وليس في نهايته كما كان يحدث في السابق عند فقدان القوات الأمنية للسيطرة؛ بالطبع هذا يدل على الرغبة الشديدة في قمع وقتل المتظاهرين”.
ويواصل علاء الدين القول: “هناك ملاحظة أخرى تتمثل في ارتفاع معدلات القتل والإصابة وسط المتظاهرين بصورة غير مسبوقة، ما يؤكد أنّ النظام الحالي أكثر دمويّة وأشد بطشا ولديه ميل قوي نحو القمع، والدليل أنّ عدد الإصابات منذ الانقلاب تجاوز الخمسة آلاف إصابة بينها (512) إصابة بالرصاص الحي”.
يضيف علاء الدين : لاحظنا أثناء إجراء العمليات الجراحية للمصابين أنّ الإصابات تركزت في مناطق مميتة من الجسم، بجانب استخدام أسلحة ثقيلة وأخرى محرمة دوليا”.
ويشير الدكتور علاء الدين إلى أنّ التقارير الطبية تؤكد أنّ القوات الأمنية والشرطة تستهدف المتظاهرين بشكل مباشر”shoot to kill” وتذهب إلى أبعد من ذلك باستهداف أشخاص بعينهم، والدليل على ذلك أنك ترى شهيدا يسعفه رفاقه، وفي المرة التالية يكون الشهيد واحدًا هؤلاء الرفاق أنفسهم، هذا الأمر ليس عبثا، ولا يقع مصادفة على الإطلاق، إن هذا النظام يهدف إلى قتل المتظاهرين وتصفية الحراك الثوري”.
ويعضد الدكتور علاء الدين فرضية وجود قناصة يستهدفون متظاهرين بعينهم بالقول: “بالطبع هذا الأمر يستدعي وجود قنّاصة محترفين لاستهداف متظاهرين بعينهم وعادة ما يتم تسديد الطلقات لمناطق مميتة في الرأس والعنق والصدر والبطن”.
طرف ثالث..!
كثيرًا ما تزعم السلطة وجود ما تُسميه بـ “طرف ثالث” يقوم بقتل المتظاهرين، كما تحتج الشرطة دوما بأنّها تستخدم الحد الأدنى من القوة ولا تلجأ إلى استخدام الرصاص الحي ضد المحتجين.
لكن الشواهد والمقاطع المصورة وإفادات الضحايا الناجين سواءً المعتقلين أو المصابين يفندون تلك المزاعم؛ فعلى سبيل المثال شهدت تظاهرات الخامس من مايو 2022 مقتل أحد المتظاهرين دهساً بواسطة مركبة شرطة كما ظهر في فيديو وثقته كاميرا قناة العربية، كما أظهرت اللقطات أيضا شخصا يحمل مسدساً وهو يتأهب لقنص المتظاهرين .
الشرطة اعترفت في بيان رسمي بمسؤولية أحد أفرادها في دهس المتظاهر، وأكدت في ذات البيان أنّ الشخص الذي ظهر وهو يحمل سلاحاً شخصياً مصوباً تجاه المتظاهرين أحد أفرادها.
وفي مظاهرات 30 يونيو 2022 وثّق مقطع فيديو عملية قتل متظاهر بشارع الستين بالخرطوم بإطلاق نار مباشر برصاص أحد أفراد الشرطة، حيث سارعت الأخيرة بإصدار بيان رسمي وقالت: “ما شاهدناه يؤكد أنّ هنالك مخالفة للتعليمات، وتصرّف يشكل جريمة ولا نقبله بتاتا من منسوبينا في كافة المستويات، وشرعنا في التحقيق وتحديد المسؤولية لاتخاذ القرارات التي تحفظ الحقوق كاملة غير منقوصة تجاه من خالف تعليمات وقرارات الرئاسة ومن ارتكب الفعل ومن سمح له بالتسليح والخروج”.
تلك الشواهد والاعترافات الموثقة تدحض فرضية (الطرف الثالث) والذي تحمله السلطة مسؤولية قتل المتظاهرين.
اعتراف ولا محاسبة..!
بالرغم من أنّ الشرطة السودانية تعد المتهم الأول في جرائم قتل المتظاهرين ورغم اعترافها أكثر من مرة بمسؤولية أفرادها في ارتكاب جرائم ضد المتظاهرين – حسب بياناتها الرسميّة- لكن لا توجد محاسبة حتى الآن ولا تزال تقف عند حد إصدار البيانات فقط.
النائب العام السابق تاج السر الحبر حسب مصادر موثوقة تحدثت لـ”دارفور 24″ شكا كثيرا بأنّ الشرطة ترفض باستمرار تسليم منسوبيها للتحقيق رغم طلبات النيابة المتكررة لرفع الحصانة وتسليم المطلوبين للتحقيق.
النائب العام ظلّ يرسل طلبا تلو الآخر لوزارة الداخلية لرفع الحصانة دون أن يتلقى أيّة استجابة تذكر، وحتى لا يحتج أحد بأنّه لم يكن يعلم بهذا الأمر كان النائب العام قد أرسل صورًا من طلبات رفع الحصانة إلى رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء.
مؤخرا شكا أكثر من وكيل نيابة من عصيان الشرطة لتوجيهات النيابة فيما يختص بإطلاق سراح المعتقلين أثناء مظاهرات 30 يونيو، وهنا يبرز سؤال ما هي دواعي بقاء وكلاء النيابات والشرطة لا تخضع لقراراتهم؟!
محامو الطوارئ..!
المحامي عثمان البصري من محامي الطوارئ يؤكد أنّ عمليات قنص المتظاهرين مقصودة وممنهجة، فطريقة القتل والإصابة تكاد تكون متطابقة، وعادة ما تستهدف الكوادر الفاعلة والنشطة في الحراك اليومي، ونجد أنّ معظم القتلى الذين استهدفوا كانوا أصدقاء أو رفقاء مواكب. فالسلطة تهدف لإخماد جذوة المظاهرات بقتل المتظاهرين وترويعهم.*
البصري قال لـ”دارفور 24″: إنّ الطريقة التي يتم بها فض وتفريق المتظاهرين مخالفة لكل القوانين المحلية والدولية، حيث ينص القانون على مصاحبة وكيل نيابة للشرطة والقوات الأمنية مع الحرص على التدرّج في استخدام القوة، والتي تبدأ بمطالبة المتظاهرين بالتفرّق ومغادرة المكان، لكن لا شيء من هذا يحدث حاليا”.*
ثمّ ماذا؟
المؤكد أنّ العدالة ظلّت الوقود الحيوي لثورة ديسمبر 2018 بالسودان، وكلما ازدادت السلطة توحشًا وسفكًا للدماء، صعدت العدالة إلى سلم الأولويات، وتعمّقت الرغبة في إنفاذها دون تسويف أو إبطاء.
لذا دائمًا ما نجد العدالة كانت الشعار الأبرز والأعلى في كل المواكب التي خرجت قبل وبعد توقيع الوثيقة الدستورية وبعد وقوع انقلاب 25 أكتوبر.
أيضا غياب العدالة سيظل عائقا أمام أية عملية سياسية محتملة بين العسكر والمدنيين، والجميع شهد أنّ الغالبية العظمى من المواكب الجماهيرية كانت تطالب بتحقيق العدالة، وأنّ السخط وعدم الرضا على المدنيين في الحكومة الانتقالية كان دافعه الأساسي ما اعتُبر تباطؤًا في إنفاذ العدالة بما فيه تسليم المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية.
المحامي عثمان البصري يؤكد أنّ العدالة في وجود المؤسسات العدلية القائمة حاليا لن تتحقق، وأنّ نهج الإفلات من العقاب لن يتوقف إلا بإصلاح هذه المؤسسات.