كشف تحقيق أجرته منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، عن قيام شركة أمن إماراتية خاصة بخداع مئات العمال السودانيين، عبر إرسالهم للحراسة في ليبيا، إسنادا لقوات الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر، بعدما استدرجتهم للعمل داخل الإمارات.
وروت المنظمة الحقوقية في تحقيقها، قصص عمال سوادنيين كانوا ضحايا خداع شركة “بلاك شيلد للخدمات الأمنية”، وهي ذات صلات غير سرية بوزارة الدفاع الإماراتية.
“عامر” الذي كان يقف إلى جانب عشرات الرجال السودانيين الآخرين في قاعدة عسكرية في الصحراء في إحدى ليالي يناير الباردة من هذا العام، لم يكن لديه أي فكرة عن مكان وجوده – كان يعرف فقط أنه على بعد أميال عديدة من المكان الذي كان يُخطط ليكون فيه. لم يعرف أين هو حتى لاحظ هو والعمال السودانيون الآخرون الملصقات على زجاجات المياه، كما قال، وأدركوا أنهم أُحضروا دون أن يدروا إلى ليبيا التي مزقتها الحرب.
بدأت رحلة عامر من مسقط رأسه الخرطوم إلى ليبيا قبل ذلك بأربعة أشهر، عندما سافر الشاب (29 عاما) إلى الإمارات، متوقعا أن يعمل كحارس أمن في ناطحات السحاب المكيّفة أو مراكز التسوّق الضخمة في العاصمة أبو ظبي. لكن منذ يوم وصوله في سبتمبر 2019، أصبح عامر قلقا بشكل متزايد بشأن “بلاك شيلد للخدمات الأمنية” (بلاك شيلد)، شركة الخدمات الأمنية الإماراتية التي وظفته. أُخِذ جواز سفره وهاتفه منه. كان مطلوبا منه الخضوع لتدريب عسكري لعدة أشهر. ولم يكن يعلم المكان الذي سينتقل إليه هو ومئات المجندين السودانيين الآخرين.
رغم شكوكه المزعجة، لم يتخيّل عامر أبدا أن الشركة سترسله هو وحوالي 270 عاملا سودانيا آخر إلى قاعدة عسكرية في ليبيا، وهي دولة تشهد نزاعا وحيث لا يزال الحكم منقسما بين كيانين متناحرين: “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دوليا ومقرها طرابلس، والحكومة المؤقتة المنافسة المتمركزة في شرق ليبيا والمرتبطة بالجماعة المسلحة المدعومة من الإمارات، والمعروفة باسم “القوات المسلحة العربية الليبية”.
تم نقل عامر والرجال الآخرين وإيوائهم في مجمع عسكري متداعٍ في بلدة راس لانوف شرق ليبيا. تقع المدينة فيما يسمى بـ”الهلال النفطي”، وهو شريط على طول الساحل الشرقي لخليج سرت حيث توجد أربعة حقول نفط من أصل ستة في ليبيا، والتي من خلالها تُصدَّر ليبيا أكثر من 50% من صادراتها من النفط الخام. في المجمع، عاش الرجال السودانيون جنبا إلى جنب مع المقاتلين الليبيين الموالين للقوات المسلحة العربية الليبية تحت قيادة اللواء خليفة حفتر. قيل لهم إنهم سيحرسون المنشآت النفطية المحيطة التي تسيطر عليها هذه القوات. منذ 2016، شهد الهلال النفطي هجمات متعددة من قبل القوات المتنافسة التي تسعى إلى السيطرة على المنطقة وإمداداتها النفطية، تسبب كل منها في وفيات وأضرار مادية واسعة النطاق. حتى سبتمبر 2020، كانت قوات اللواء حفتر تحتفظ بالسيطرة على المنطقة وحقول النفط التي استولت عليها في يناير 2020.
عامر والرجال السودانيون الآخرون، الذين غيّرنا أسماءهم لحماية هوياتهم، تعرضوا إلى العديد من ممارسات التوظيف الاستغلالية وانتهاكات العمالة الوافدة التي يواجهها عادة العمال الوافدون في الإمارات ومنطقة الخليج بشكل عام. لكن ما يميّز قضيتهم هو الخداع الذي تعرضوا له والذي عرضهم في النهاية لخطر أن يصبحوا أهدافا عسكرية محتملة في بلد غارق في حرب أهلية مستمرة منذ سنوات، فيما يمكن أن يرقى إلى انتهاك للقانون الإنساني الدولي.
تحقيقنا عن محنة هؤلاء الرجال يُسلّط الضوء على مثال واحد فقط عن التورط الخبيث للإمارات في النزاعات الخارجية، والذي يتضمن تحويل كميات هائلة من الأموال والأسلحة إلى الجماعات المسلحة المحلية المسيئة في اليمن وليبيا وتوظيف مقاتلين أجانب للمساعدة في شن حروب بالوكالة في المنطقة. في السنوات الخمسة الماضية وحدها، قامت القوات المحاربة بالوكالة بقيادة الإمارات، باحتجاز وإخفاء وتعذيب يمنيين في جنوب وشرق اليمن، بما في ذلك نشطاء يمنيون انتقدوا انتهاكات التحالف.
في أكتوبر 2019، زعم تحقيق لموقع “بزفيد” أن الإمارات وظّفت جنودا أمريكيين سابقين لقتل رجال دين بارزين وشخصيات سياسية إسلامية في اليمن في حملة اغتيالات مُستهدفة. وفيما يبدو مشابها بشكل مخيف لنتائج تحقيقنا، ظهرت تقارير لم يتم التحقق منها في 2018 عن تجنيد تشاديين في وظائف مع شركات أمن إماراتية في الإمارات ثم إرسالهم للقتال في اليمن.
حتى قبل الإطاحة بالرئيس عمر البشير في 2019، ضخت الإمارات مليارات الدولارات في السودان مقابل مشاركة هذه الدولة المتعثرة في القتال الذي يشنه التحالف بقيادة الإمارات والسعودية في اليمن. منذ 2015، يُرسل السودان قوات إلى اليمن، بما في ذلك أعضاء من “قوات الدعم السريع” شبه العسكرية، المعروفة بانتهاكاتها في دارفور.
في ليبيا، تُعدّ الإمارات واحدة من ثلاث دول انتهكت بشكل روتيني وممنهج حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011، وفقا لتقارير خبراء أممين. تزوّد الإمارات جماعة اللواء حفتر المسلحة بالسلاح والذخيرة، ولها قاعدة عمليات متقدمة في شرق ليبيا، وتسيّر طائرات بدون طيار مسلحة لدعم اللواء حفتر. منذ أبريل/نيسان 2019، نفذت أكثر من 850 غارة بالطائرات بدون طيار والطائرات الحربية نيابة عن اللواء حفتر، مما قتل عشرات الأشخاص. بحسب تقارير، هناك مقاتلون أجانب من السودان وتشاد، ومقاتلون من شركة أمنية خاصة تابعة للكرملين الروسي، ومقاتلون سوريون مدعومون من روسيا، يدعمون أيضا الجماعة المسلحة التابعة للواء حفتر. وفقا لتقرير فريق الخبراء المعني بالسودان، في 2019، زادت الجماعات المتمردة الدارفورية بشكل كبير من قدراتها العسكرية في ليبيا، بما في ذلك في منطقة الهلال النفطي لدعم القوات المسلحة الليبية في عمليات واسعة النطاق للتجنيد وشراء المعدات.
حتى أكتوبر 2020، لم تردّ الإمارات على الادعاءات الموجهة ضدها من قبل الرجال السودانيين. في بيان نسبته التقارير الإخبارية إلى بلاك شيلد، والذي تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي أواخر يناير 2020، نفت الشركة جميع مزاعم خداع عمالها فيما يتعلق بطبيعة أو موقع العمل، وأكدت أنها لا تشارك في أي خدمات أو أعمال ذات طابع عسكري.
إذن كيف وجد عامر ومئات الرجال الآخرين أمثاله، الذين غادروا بلدهم المتعثر لتأمين وظائف جيدة الأجر في الإمارات التي يُفترض أنها آمنة وثرية، أنفسهم جنبا إلى جنب مع المقاتلين الليبيين الذين أنهكتهم المعركة في ليبيا المنكوبة بالنزاع؟
في وقت سابق من هذا العام، أجرت “هيومن رايتس ووتش” مقابلات هاتفية أو شخصية مع 12 مجندا سودانيا سافروا إلى الإمارات، بينهم عامر، وثلاثة آخرين تقدموا بطلبات إلى بلاك شيلد عبر وكالات توظيف سودانية محلية لكنهم لم يذهبوا. راجعنا وثائق بلاك شيلد التي قدمها لنا من قابلناهم وتلك المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها الرجال في الإمارات ورأس لانوف. جمعنا أيضا المعلومات المتاحة علنا عن الشركة والمنتسبين إليها. راسلنا ممثلين عن بلاك شيلد والقوات المسلحة الإماراتية ووزارة الدفاع والقوات المسلحة العربية الليبية في سبتمبر/أيلول 2020 للاستفسار عن المزاعم التي أثارها الرجال السودانيون، لكننا لم نتلق ردا من أي منهم حتى وقت النشر.
بالنسبة إلى عامر، بدأ كل شيء في خريف 2019 في الخرطوم. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه سمع عن وظائف حراس أمن رواتبها جيدة في الإمارات ويتم التوظيف لها في السودان. تقدم بطلب من خلال واحدة من وكالتي توظيف محليتين، وقدم جواز سفره، ودفع 12 ألف جنيه سوداني (266 دولار أمريكي في ذلك الوقت) كرسوم توظيف. توقّع أن يتم توظيفه في المولات أو المستشفيات أو الفنادق أو عند مداخل السفارات أو المباني الحكومية. في غضون أيام، جهزت له وكالة التوظيف تأشيرة عمل وتذكرة طائرة إلى أبو ظبي في 22 سبتمبر 2019. لم يقدموا له عرض عمل أو عقد عمل أثناء وجوده في السودان، الأمر الذي، دون أن يعلم، ينتهك قرارا وزاريا إماراتيا لعام 2015، والذي يحظر على العامل الأجنبي دخول البلاد دون التوقيع أولا على عرض عمل يتوافق مع عقد العمل الموحد الذي وضعته وزارة العمل..