الخرطوم- دارفور24
إنّها الرابعة والنصف صباحاً، أشعة الشمس لم تحسم أمر بذوقها بعد، إلا مِن قليل متمرد، تسرب ليُبدد ظُلمة نِساء خرجن بحثاً عَن “رغيفات” يُسددن بها رمق صغارهن قُبيل الذهاب إلى المدرسة.
أزمة الخُبز التي بلغ سيلها الزبا القت بظلال غاتمة على فئات الشعب شيباً وشباب، ويومياً يطرح المواطنيين بصفوف تبدو وكأن لا نهاية لها أسئلة تنتظر اجابات مقنعة وحلول ناجعة.
* مشوار الحياة اليُوماتي
سَيِدة تحتضن طِفلها الرضيع بِيدها اليُسرى بينما تُمسك الأُخرى “محفظة” تخشى عَليها ففِي قلبها جُل ما تملك- تثاءب الصغير المُتكرر يُشير إلى أنّه أُنتزع مِن مرقده إنتزاعاً.
دورها لم يَحن بعد، أشبه بطريق طويل مِن الإنتظار المُمل، علمت مِن خِلال سردها مُعاناة الحياة اليُومية اعتيادها مُعايشة ذات السيناريو “بحذافيره”ومُنذ يُقارب الشهر ونِيف يومياً.
تستيقظ الخالة “نِمرة كُوكُو”- ربة منزل تبلغ مِن العمر تسع وأربعون عاماً- فِي تمام الخامسة صباحاً، فِي مُنافسة جادة وحقيقية مع شروق الشمس، مهامها اختلفت كُلياً فبدلاً مِن اشعال نار “الشاي” الذِي اعتادت شُربه و”أبو وليداتها” مُبكراً، باتت تُيمم شطرها صوب المخبز الذِي يُفاقم بُعده عَن منزلها حِدة المُعاناة، وكأن الوقوف فِي صف “حدادي مدادي” لا يكفي؟!!.
* الصُبح فِي المخبز
تقول لدارفور24: إنّها وعلى مَدى اسبوعين على التوالي تسربت مِن بين يديها مواقيت صلاة الصبح- قالتها وموجة طفيفة مِن الحُزن غطت وجهها- لذا وبعد تفكير لم يكن أمامها سوى أخذ “المصلاة” والمسبحة بمعيتها هذه المرة.
الدهشة التي أعتلت وجوه النِساء المصفوفات فِي انتظار دورهن لشراء رغيفات وضع أصحاب المخبز مبلغ 30 جنيه كحد أقصى أي ما يعادل 30 قطعة خُبز أذ تُباع القطعة الواحدة بجنيه للشراء.
سرعان ما تبددت بتكرار التجربة، إذ تتخذ “نمرة” لنفسها ركناً قصياً عقب سماع الأذان، تؤدي فيه الفريضة ثم تعود تترقب دورها بوجل.
* أين المسؤولون؟!
سُؤال طرحته “فاطمة حامد”- المعلمة بمرحلة الأساس وربة منزل فِي آن- روت مِن خلالها سردها لدارفور24 الشهر ونِيف مُعاناة طُلابها بالفصول الصغرى، الأطفال الذين لم تتعدى أعمارهم الثامنة بعد، وبالطبع لا يملكون مِن الصبر وقوة التحمل ما يُعينهم مُجابهة الجوع.
تختزن ذاكرة فاطمة بالكثير من القصص القاسية لتلاميذ ها بطلها الأوحد الجوع وأزمة خُبز تطحن فِي طريقها أمال الصغار العراض.
تقول: المسؤولون عليهم الطواف في المدارس النائية والطرفية إن كانوا يريدون معرفة كيف ينخر الجوع الجسد ويحيله لعظام تمشي على أرجل منهكة.
ولفتت إلى أنها اضطرت ذات صباح لإلغاء حصة العاشرة صباحاً نظراً لإنعدام الخُبز بالمدرسة، واخبرت طُلابها أنّ ساعة ونصف مِن اللعب بدأت الآن، لفت انتباهها أنّ أحدهم لم يبرح مكانه، وطوى جسده الصغير على الدرج ، تحركت صوبه، سألته مُستفسرةوهو المشاغب كثير الحركة أثناء الدرس ناهيك والوقت له، فكانت اجابته صادمة، إذ باغتها قائلاً : “جعان يا استاذة ماقادر أقوم”.
* أزمة مُفتعلة
يُصر ” التجاني نُقد “- مُهندس كهربائي- وكومة مِن “الطوب” احتلت موقعه بصف الخُبز، لينسحب هو مُنزوياً إذ خارت قواه، فِي حديثه مع “دارفور ٢٤” على أن أزمة الخبز الطاحنة وغير المعهودة التي تشهدها البلاد مُفتعلة.
ويُضيف: هُناك مَن يُحاول جاهداً إحالة حياة السَّودانين لجحيم وبث حالة من الإحباط في نفوس شعب خرج عن بكرة أبيه، وقال كلمته بصوت جهور “تسقط بس” ويسقط مَن فشل فِي ادارة بلاد مليئة بالموارد البِكر ألف مرة.
* “الجوع ولا الكِيزان”
أشار بيده “كومة الطوب” تلك التي تنوب عَني أملاً فِي الحصول على “30” رغيفة تسد رمق ابنائي قُبيل الذهاب لمدارسهم على استعداد تام لتنازل عنها، والمضى نحو المجاعة، إن كان ثمنها العودة للمربع الأول “الجوع ولا الكيزان”.
* مصائب قوم
أثناء التنقيب عن تداعيات أزمة الخُبز التي تعيشها البِلاد مُذ قُرابة الستة أشهر ونِيف مع تفاقم حِدتها مطلع فبراير المنصرم، رصدت “دارفور 24” مجموعة مِن الأطفال لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشر يتناوبون الوقوف بصفوف الخُبز فِي عُدة مخابز تقع بمنطقة الفيحاء مربع “9” علمنا فيما بعد أنهم يقومون ببيعه لاصحاب المطاعم والسيدات اللائي يقمن بإعداد الطعام وبيعه بواقع “10” رغيفات ب “15” جنيه، أيّ أن مقابل كل “10” رغيفات “5” جنيه صافي ربح.
أحد الأطفال أكد أنه اعتاد الاستيقاظ الثالثة صباحاً والتوجه إلى ثلاثة أفران بعد استلام سعر الخُبز وعمولته كاملة مِن “5” بائعات أطعمة، تمنحه كُلن منهن “250” جنيه، حصته منها “50” جنيه، أي أنه يعود أدراجه بعد خوضه معارك طاحنة في صفوف الخُبز وفِي جعبته “250” جنيه يومياً.
المبلغ المذكور آنفاً يجني “طارق”- طالب بالصف الثامن- ضعفه، كيف ؟! لأنه ينام هُناك، يأتي بمعية شقيقه الأصغر الثانية صباحاً يتوسدان “مصطبة” تتقدم فُرن “لفة٢”، وبهذا يكونان أول مَن بالصف، علماً بأن الخُبز بحوذتهم يُباع لأصحاب المطاعم القطعة الواحدة بجنيهين.