قبل غروب شمس الإثنين؛ الثاني من مارس، خرجنا من الخرطوم في طريقنا إلى دارفور براً، كنا مثقلين برهق أزمات صفوف الخبز، الوقود والمواصلات، وفي ظن كثيرين إنها أعلى مراتب المعاناة التي ليس بعدها إلا تلاشي الأمل. أن تقضي الساعات الطوال في انتظار خبز أو وقود أو حتى وسيلة مواصلات تقلك إلى مكان عملك أو تعيدك لمنزلك، لكن على بعد ما يقرب (2000) كلم غرباً باتجاه تشاد حيث معسكرات اللاجئين الذين فروا من ويلات حرب دارفور. عندها شاهدنا بأم أعيينا أن تلك الصفوف التي خلفناها وراء ظهورنا كانت أعلى مراتب الرفاهية كما سنروي لاحقاً.
الطريق إلى بارا..
إثنتا عشر ساعة أو تزيد، طوينا طريق الخرطوم-بارا-الأبيض وصولاً إلى الفاشر التي استقبلتنا صباحاً متقلبة بين بقايا جراح حرب لم تُبق ولم تذر وبعض قناديل أمل تلوح بين الابتسامات الوادعة. وحشة الطريق الذي يكاد يخلو من مظاهر حياة إلا قليلاً كانت تحكي على نحو آخر وحشية الحرب التي هجّرت الآلاف وشتتت شملهم بين المدن ومعسكرات النزوح واللجوء والمهاجر.
في معسكر “بيرجن”
لم يكن الوصول إلى معسكرات اللاجئين السودانيين بشرق تشاد ممكناً على نحو آمن إلا بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع؛ عمر البشير، فكان أول وصول للصحافة السودانية هناك برفقة أول زيارة لزعيم حركة مسلحة إلى هناك منذ تفجر الحرب في 2003، حيث كانت ضربة البداية في معسكر بريجن الذي يبعد من الطينة التشادية نحو “300” كلم وهو واحد من “13” معسكراً بشرق تشاد، يضم “54” ألف لاجئ ولاجئة. الدخول إلى بريجن ليس سهلاً، قضينا سحابة يومنا كاملاً في الوادي بقرب المعسكر، الوضع لا يخلو من توتر وقلق، أسبابه مجهولة بالنسبة لنا، وما فهمناه قبل دخولنا المعسكر أن الأمر ليس كما كنا نتوقع، فبعض المعسكرات تكاد تكون مناطق أمنية، يحتاج الدخول إليها ترتيباً دقيقاً ومحكماً، فهي تحت سلطات الدولة المضيفة وهي كذلك ليست بعيدة عن حالة الاستقطاب السياسي والقبلي التي سيطرت على المشهد السوداني طيلة سنوات النظام السابق قبل أن يبزغ فجر الثورة .
ظللنا في انتظار وصول رئيس حركة جيش تحرير السودان؛ مني أركو مناوي الذي شق طريقه إلى المعسكر من إنجمينا إلى أبشي ثم إلى أرض المعسكرات شرق تشاد برفقة سيارات الحرس الجمهوري التشادي، حيث ترتب الحركة للقاءات جماهيرية لمخاطبة اللاجئين حول ملف السلام، وقبل بلوغنا نقطة الانطلاق؛ معسكر “بريجن” مكثنا يوماً كاملاً في منطقة الطينة التشادية التي تبعد من الفاشر مسافة أكثر من “400” كلم، في انتظار أن تمنحنا السلطات التشادية تصريحات العبور ومن ثم الدخول للمعسكرات.
أهازيج “دسيس مان”
ريثما يتم الترتيب لدخولنا المعسكر، كان الأطفال اللاجئون يتناثرون حولنا خارج المعسكر كحبات قمح، إلتقيناهم وتحدثنا إليهم. جيل كامل أبصر النور في تلك المعسكرات لم يرتبط بتراب الوطن ولا يحفظ عنه إلا ذاكرة مثقلة بالحرب والدمار. نصر الدين يبلغ من العمر (16) عاماً يبدو حزيناً ومنعزلاً عن رفاقه، لا يتحدث إلا قليلاً يروي لنا كيف فقد أبيه وأمه، وهو يعيش مع جده في المعسكر، ومثل نصر الدين كُثر، ورغم ذلك، كانوا مشبعين بروح ثورة ديسمبر، يرددون شعاراتها وأهازيجها يحفظون أنشودة دسيس مان الشهيرة “انت حاول بيت” رددوها على مدار الساعات التي قضيناها معهم، الرئيس بالنسبة لهم هو إدريس ديبي، وهو الحال في بقية المعسكرات، اللافت أن بعضهم كان يردد إسم “حمدوك” رئيس الوزراء، وفي معسكرات أخرى يرددون إسم “مناوي” حينما تسألهم من هو الرئيس، ولا يرتبط إسم البشير بين سكان المعسكرات إلا بالدم والخراب، ولا ينافس البشير في هذه المرتبة إلا “الجنجويد” والأمر ليس بين الأجيال المعاصرة للحرب التي تفجرت في 2003، يتعدى ذلك إلى حتى مواليد المعسكرات، أخبرنا بعض الذين جلسنا إليهم أن مجرد إسم “البشير” يُمكن أن يقود إلى تهلكة. زكريا عمر البشير، كان معلماً يدرس التلاميذ في أحد المعسكرات، بسبب إسم والده تعرض لتنمر وحشي اضطر لمغادرة المدرسة.
صباح اليوم التالي كنا على موعد للدخول إلى المعسكر، بعدما بِتنا ليلتنا تلك في منزل أحد عُمد المساليت بقرية حجر حديد الواقع على أرضها المعسكر، وتحدد السلطات التشادية تحركاتنا وأماكن إقامتنا. حينما سُمح لنا بدخول المعسكر عرجنا مباشرة إلى المدارس والمراكز الصحية، دخلناها محاطين بالأطفال. بعض الفصول تبدو بحالة جيدة وبعضها يعكس ما فعلته الحرب في دارفور، الرغبة في التعليم كبيرة ومتزايدة، هكذا أفادنا من تحدثنا إليهم في المدارس، فبعض المدارس اضطرت إداراتها لتقسيم الدوام المدرسي إلى صباح ومساء نظراً لمحدودية الفصول وشح المعلمين وتزايد أعداد التلاميذ، ففي مدرسة “سنتر بيه” “أبو بكر الصديق” سابقاً، يوجد 15 معلماً مقابل “16” فصلاً، منها الصف الأول “4” فصول.
مناهج تشادية
يدرس هؤلاء الأطفال المنهج التشادي في مدارس الإبتدائي والمتوسطة والثانوي، حيث تم تغيير المنهج من المناهج السودانية إلى التشادية منذ العام 2014م، تقول فاطمة إبراهيم والتي تعمل معلمة بمدرسة إبتدائية بمعسكر بريجن إن المنهج التشادي لا يختلف عن السوداني كثيراً في مواد، العلوم، الرياضيات والتربية الإسلامية واللغة العربية، لكن الاختلاف الكلي في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، ويتخرج التلميذ بعدها مشبعاً بجغرافيا وتاريخ الدولة المضيفة ويمثل التعليم قضية جوهرية لسكان المعسكرات ومؤرقة في ذات الوقت، ولا يعني الوصول إلى المرحلة الثانوية أن الطريق معبد لدخول الجامعات بالنسبة للطالبات والطلاب، وهذا الأمر خلّف إحباطاً واسعاً وسط سكان المعسكرات، فالغالبية ينتهي تعليمها عند المرحلة الثانوية، أما الوصول إلى الجامعات فهو إما عبر منح محدودة للغاية تخصصها بعض المنظمات وبعض الدول الأوروبية، ووفقاً لمدير مدرسة المستقبل بمعسكر “كوننقو” آدم فضل فمن بين “45” طالباً وطالبة، تخصص “5” منح لدخول الجامعات، على سبيل المثال، وما تبقى يدرس على نفقته الخاصة، ونظراً للأوضاع الاقتصادية المتردية في المعسكرات فلا يجد الغالبية طريقاً إلى الدراسة في الجامعات التشادية، ويظل حلم الدراسة في الجامعات السودانية يراود الكثير من الفتيات والفتيان، وربما كان ذلك ممكناً قبل 2014، لكن بعد تغيير المنهج تلاشت حتى الفرص الضئيلة.
بعدما أكملنا مقابلاتنا في المدرسة متنقلين بين الفصول وتحت الأشجار، كانت أصوات التلميذات والتلاميذ حولنا تعلو وتعلو، يرددون بحماس لافت نشيداً باللغة الفرنسية، المترجم الذي كان يرافقنا أخبرنا أن فحوى النشيد “اللعنات تلاحق البشير”.