كتب: مجدي الجزولي
تحدى الفريق البرهان الحكومة الانتقالية بتكتيك مخاتل، التقى في عنتبي اليوغندية رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنجامين نتنياهو يوم ٣ فبراير ولا هماه شي. التأم اللقاء، بواسطة من الكفيل الإماراتي، وتشجيع شديد من واشنطن. أنكرت الحكومة الانتقالية وكذلك قوى الحرية التغيير أي معرفة مسبقة لها بمغامرة البرهان وأصدرت بيانات تشجب وتدين هذا الخرق للوثيقة الدستورية على أساس أن علاقات السودان الخارجية من اختصاص مجلس الوزراء وأن قضية مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني تتجاوز حدود ما يمكن أن تقطع فيه الحكومة الانتقالية. أصدرت قيادة القوات المسلحة بيانا صريح العبارة في دعم البرهان وشرح الأخير خطوته لنخبة من الصحفيين محتجا بأمن البلاد ومصالح الشعب السوداني العليا. قال البرهان أن العنتريات القديمة والشعارات الخاوية لن توفر القمح أو الوقود كأن سلامه مع الكيان الصهيوني سيفعل وأكد أن طرقه باب تل أبيب سيفتح الطريق إلى رضى واشنطن ومن ثم إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعفاء ديون السودان المتراكمة لدى الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد والبنك الدوليين. ردد معلقون وسياسيون من بيئات فكرية متباينة، كان أفصحهم بيانا الدكتور النور حمد، عقيدة البرهان في التطبيع ورجحوا لذلك صيغة شوفينية من القومية السودانية على سنة ملك أميركا العريان دونالد ترامب لسان حالهم “السودان أولا” في لبوس الواقعية السياسية وبراغماتيه المتعقلين لا صناجة الثوريين.
لم يخترع البرهان طريقا جديدا فقد سبقه في سكة “السلامة” الإسرائيلية ديكتاتور عسكري آخر. التقى جعفر نميري يرافقه مدير جهاز أمن الدولة عمر محمد الطيب في ١٣ مايو ١٩٨٢ آرييل شارون، وزير الدفاع في حكومة مناخيم بيغن، في كينيا بتيسير من تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي. اتفق الطرفان على أن عدوهم المشترك هو ليبيا القذافي. وافق نميري مبدئيا في اجتماعه مع شارون على التعاون في تهريب اليهود الفلاشا من اثيوبيا إلى الكيان الصهيوني ووعده شارون بأن يجعل السودان مخزنا كبيرا للسلاح الإسرائيلي للاستعمال في عمليات خاصة. بحسب رواية خاشقجي، وافق الملك فهد أن يمول مشروع تخزين السلاح ب ٨٠٠ مليون حتى مليار دولار. عاد نميري إلى الخرطوم وتلكأ حتى أتاه الأمر الأميركي المباشر من وزير الخارجية وقتها جورج شولتز ومعاه كيكة قدرها ٢٠٠ مليون دولار تضاف إلى مبلغ المساعدات الأميركية لحكومة السودان. كان شرط نميري السرية لكن كما في هذا المرة رفع الإسرائيليون الحجاب عن اللقاء ووجد الخبر طريقه إلى الصحافة. لم ينتظر نتنياهو المحاصر بقضايا الفساد عودة البرهان إلى الخرطوم وغرد هو كذلك مسرورا بموافقة البرهان على فتح مجال السودان الجوي للطائرات التجارية المتجهة إلى المطارات الإسرائيلية.
جاءت مغامرة نميري الإسرائيلية في سياق تبعية السودان وقتها للقطب الأميركي. كان نميري انتقل برشاقة يحسد عليها في عقابيل انقلاب ١٩٧١ من معسكر الدول الاشتراكية وحليفاتها من أنظمة التحرر الوطني إلى معسكر الولايات المتحدة بإرشاد من مصر السادات، وأصبح الجيش السوداني بذلك مكونا من مكونات النظام الأمني الأميركي في الإقليم. تلقى الضباط السودانيون التدريب في الكليات العسكرية الأميركية واكتسبوا الأسلحة الأميركية واشتركوا والجيشين الأميركي والمصري في مناورات دورية أبرزها عملية النجم الساطع التي تجري كل عامين وما تزال بين الجيشين الأميركي والمصري. لعل هذا المثال هو ما يلهم مساعي البرهان، فهذه صورة اندماج السودان في النظام الدولي كما تتراءى لضابط عظيم. من وجهة النظر الإسرائيلية، لطالما كان السودان مجالا للتدخل على أساس مفهوم الهامش العربي لصاحبه ريفن شيلواه، المدير المؤسس للموساد. نشأ هذا المفهوم في سياق المواجهة الإسرائيلية مع مصر الناصرية ومن والاها ويقوم على الفوز بحلف حلقتين من القوى: الدول غير العربية المحيطة بالعالم العربي (إيران وتركيا واثيوبيا)، والقوميات غير العربية المضطهدة داخل البلاد العربية. لربما جاز في هذا الإطار تفسير الاتصالات الإسرائيلية منتصف الخمسينات مع ممثلين لحزب الأمة بما في ذلك ضابط عظيم آخر، رئيس الوزراء البيه عبد الله خليل، فقد كان المسعى وقتها ضم السودان إلى الحلقة الأولى من الدول.
كان ذعر حزب الأمة من احتمال الوحدة مع مصر خاصة بعد صعود جمال عبد الناصر إلى السلطة دافعا لنشاط دبلوماسي محموم لممثلين عن الحزب بهدف ضمان الدعم البريطاني. التقى محمد أحمد عمر الذي كان مديرا لتحرير جريدة النيل الناطقة باسم حزب الأمة في رفقة السيد الصديق المهدي عام ١٩٥٤ بدبلوماسيين إسرائيليين في لندن وطلبا دعم الكيان الصهيوني لقضية استقلال السودان خاصة في الولايات المتحدة والأمم المتحدة. تجددت الاتصالات في سبتمبر ١٩٥٦ حيث التقى محمد أحمد عمر برئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها ديفيد بن غوريون في اسطنبول لبحث إمكانية أن تقدم إسرائيل الدعم الفني في تطوير مشاريع آل المهدي الزراعية ومشاريع أخرى تختص بتحجيم النفوذ المصري في السودان. بلغت هذه العلاقات قمتها في لقاء البيه عبد الله خليل وهو رئيس للوزراء في أغسطس ١٩٥٨ بوزيرة الخارجية الإسرائيلية وقتها غولدا مائير وذلك في فندق بلازا أثينا في باريس ثم انقطعت سلطته بعد أسابيع قليلة بانقلاب نوفمبر ١٩٥٨.
ماذا يريد البرهان من الإسرائيليين إذن؟ الظاهر ما قاله بخصوص إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والمأمول من تبعات مالية واستثمارية. لكن كما قال تيمور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون الإفريقية، ليست هذه القضية كمفتاح النور الذي يتش، بل عملية تتصل بقرار الكونغرس الأميركي الذي صدر في هذا الشأن عام ١٩٩٣. لا يمنع هذا القرار ولا يجرم الاستثمارات في السودان لكنه يمنع عن السودان العون الأميركي المباشر والأهم يحول دون التعاون العسكري بين البلدين وتصدير الأسلحة الأميركية إلى السودان. سوى ذلك أزالت الولايات المتحدة عام ٢٠١٧ العقوبات الواسعة التي كانت تمنع المعاملات البنكية والتجارة بين البلدين. أما مسألة ديون السودان الخارجية فقد سبق وأوضح صندوق النقد أن القضية المفتاحية التي تمنع الصندوق من إقراض السودان في الوقت الحالي ليست القائمة الأميركية وإنما متأخرات ما اقترض السودان سابقا من الصندوق والبالغة حوالي مليار ونصف دولار من مجموع ٦٠ مليار دولار تقريبا هي جملة ديون السودان الخارجية. ما يسعى إليه البرهان بهذا التقدير هو ما يسر ضباط الجيش الذين سارعوا لدعمه، يريد النصرة بالقوة الأميركية، يريد السلاح الأميركي والتدريب الأميركي والوصل الاستخباري الأميركي على سابقة نميري. يرشح البرهان نفسه لدور الديكتاتور المطيع كما سميه عبد الفتاح السيسي، جزار رابعة وسجان مصر الأول. لربما طاوع البرهان من قوى الحرية التغيير في هذا المسعى من أغرته فكرة “المستبد العادل” وحدث نفسه بضابط علماني من عندينا، يبل أعادينا. لكن، اجتمعت لدينا من التجربة مع حكم الجيش ما يحصن ضد إغراء الانقلاب هذا، ولذا خرجت لجان المقاومة بصوت الثورة تطالب الحكومة الانتقالية بشد الحيل فهذه ساعة تجمير الثورة من الثورة المضادة وامتحان ازدواج السلطة، لمن؟