مما لا شك فيه أن فلول النظام البائد – تجلس باسطة ذراعيها بالوصيد – لتعمل جاهدة على إرباك المشهد السياسي بضعضعته وإضعافه ومن ثمَّ الحُلم بإسقاطه. وقد يبدو ذلك ضرباً من ضروب الوهم للواقعيين، ولكن إن شئت توصيفاً دقيقاً، فقل إنها الكوميديا السوداء عينها، لمن عرف شطحات ونطحات الحركة الإسلاموية وعُصبتها. إذ كيف يُمني النفس من نال نصيبه من كآبة المنظر وسوء المنقلب ليعيد سلطة فاجرة سيرتها الأولى؟ بيد أن الملاحظ في خططهم الجهنمية تلك استهدافهم رموز السلطة، سواء في المجلس السيادي أو التنفيذي، الواحد تلو الآخر، وعندما لا يجدون ما يقتاتون به في نقدهم، يلقون باللائمة تلقائياً على كاهل قوى إعلان الحرية والتغيير ويحملونها مسؤولية ثقب الأوزون!
بالطبع لا ينبغي أن نعير ذلك اهتماماً طالما عرفنا هويته، ولكن بالقدر نفسه لا يجوز أن يكون ذلك بعبعاً يخيفنا ويجعلنا نحجم عن انتقاد أنفسنا نقداً ذاتياً صارماً. ففي ذلك تمرين للحرية التي غابت عنَّا، وفي نفس الوقت زاداً للديمقراطية التي نرومها. ومن هذه الزاوية يجب أن نعترف أن ثمة تباطؤاً غير مبرر في إيقاع العملية السياسية، إذ لا يستقيم عقلاً أن تمضي أكثر من خمسة أشهر على سقوط الطاغية ونظامه، ونحن ما نزال نحبو على عتبات اختيار الأشخاص الذين يشغلون مناصب بعينها!
ليس سراً أن الشارع الثائر تدثر بصبر أيوب طيلة تلك الفترة، في انتظار أن يبدأ المسيرة نحو تحقيق الغايات الكبار. ولم يكن غريباً أنه عندما عيل صبره خرج مُجدداً في مسيرات كما سابق عهده. لكن الأغرب أن تظاهراته المُستجدة تلك بالرغم من أنها كانت ذات مطالب مُحددة ومُعينة (مثل تعيين رئيس القضاء والنائب العام) فقد كان المأمول أن تستجيب قوى الثورة فوراً لرغبات الثائرين طالما أنها تعبر عن نبضهم وتطلعاتهم. فإذا به نشهد فاصلاً من فواصل اللامبالاة المثيرة للحس الثوري. إذ أصبحت تلك التظاهرات عبارة عن جنازة تنتهي بانتهاء مراسيم الدفن، أي بتسليم مذكرة تُتلى على المتظاهرين، ثمَّ ينفض السامر تأهباً لفاصل جديد!
الذي ينبغي ألا يغيب عن ذهن من تصدروا المشهد السياسي هو أن الجماهير الثائرة ارتضت بخياراتهم رغم ما اعترى بعضها من عللٍ وبثور، بل مضوا إلى أبعد من ذلك واستبشروا به خيراً لعل المحك العملي يُصلح ما أفسده العطار، ولعل ذلك يقرِّب المسافات والأحلام معاً نحو تحقيق الأهداف الكبرى. وفي هذا الصدد كان واضحاً لكل ذي بصيرة أن الجماهير الثائرة أدركت أن تحقيق تلك الأهداف يمر عبر بوابة العدل والذي هو أساس الحكم. وعليه ظلَّت العيون مصوبة – يشوبها الحذر والترقب – نحو أهم منصبين يمثلان الركائز التي تستند عليها الفترة الانتقالية، وبالتالي تمثل السلسلة الفقرية للديمقراطية المنشودة، وهما منصبا رئيس القضاء والنائب العام.
أقول في هذا الصدد أيضاً، ليس سراً أن قوى إعلان الحرية والتغيير أبدت تنازلات مهينة للمجلس العسكري، بل إن شئنا تخفيفاً نقول إنها لا تتسق ونهج الثورة، وكانت النتيجة أن تهاوناً حدث من خلف الكواليس، إذ استمرأ المجلس العسكري ذلك الخنوع، للدرجة التي أصبح يرفض فيها أي اختيار دون أن يعرف الواقفون على شفا الجحيم أيان مرساها، بل ودون أن يعرفوا الأسباب وراء ذلك الرفض المتكرر. حدث ذلك في حالة مولانا عبد القادر محمد أحمد ومولانا محمد الحافظ وآخرين لا نعرفهم من وراء حجاب. ولهذا لم يكن غريباً أن تلجأ الجماهير إلى استخدام سلاحها المُدَّخر ليوم كريهة وطعان جلس. فوجدت في الشوارع التي لا تخون ملاذاً لبثها شكواها وبلواها وأنينها.
قد يحاول قائل تعميش عين الحقيقة ويستجلب ما تعجز عنه الأضابير في فقه ما يسمى زوراً وبهتاناً الدولة العميقة، وبالرغم من أنها تهمة يسعد بها الإسلامويون وشرف يدعونه ويروجون له، إلا أنها محض أكذوبة، تماماً مثل أن يقول لك قائل فيهم (لا للسلطة ولا للجاه) وهو مكتنز شحماً ولحماً وورماً. أما الطيبون فقد يرجعون أسباب التلكؤ إلى الملابسات التي حدثت في التباين الذي ظهر بين وثيقتين أثارتا جدلاً في ما لا يُجنى طائل من ورائه. إذ إن توقيع الإعلان نفسه تمَّ في يوم 17/8/2019 وقد مضى على ذلك أكثر من شهر، مما حدا بالراصدين لحركات وسكنات الثورة أن يعزوا البطء لأمرٍ كان مقصوداً. وبالطبع فإن صح ذلك فتلك جريمة مكتملة الأركان!
ذلك يدفعنا مباشرة إلى طرح سؤال المليون كما يقولون: لماذا لم تطرح لجنة الاختيار داخل قوى الحرية والتغيير اسم مولانا سيف الدولة حمدنا الله ضمن الخيارات المتاحة؟ وبصورة أكثر مباشرة هل ثمة من اتصل به ليعرف رأيه ما إذا كان رافضاً أو مُمانعاً أو حتى مُتمنِّعاً؟ لا سيَّما، وأن الرجل كانت أسهمه مرتفعة لدرجة حسب الكثيرون الأمر محسوماً من قبل أن تأتي الثورة أُكلها؟ سأدلى بإجابة أرجو ألا تفجع القارئ مثلما فُجِعت بها، فقد علمت مؤخراً أن اسم سيف الدولة لم يكن مطروحاً ضمن خيارات من بيده القلم. وأزيد بما هو أفجع في أن لا أحد اتصل به ليقول له يا بُني أركب معنا ولا تكن من العاقين!
لعل السؤال الذي يطرح نفسه بعدئذ؟ إذن (لماذا حدس ما حدس) الذي حدث أن جهابذة يوم الحشر قالوا لمن بيده الأمر إن مولانا سيف الدولة رفض الترشيح؟ فقال لهم كيف؟ فقالوا إنه كتب مقالاً في (الفيس بوك) وأعلن فيه رفضه. هب – يا رعاك الله – أن هذا المقال منحولٌ، بل قل إنه صحيح البدن والعافية ألا يستحق المذكور مكالمة هاتفية تكلف دولاراً واحداً من ثروات أهل السودان؟ غير أن أسوأ ما نما لعلمي وكاد قلبي أن يتوقف فيه عن الوجيف، هو أن أحد جهابذة يوم الحشر قال مبرراً تقاعسهم أن (سيف الدولة نفسُه حار) ولعل راعي الضأن في الخلاء يعلم أن تلك صفة يتطلع إليها المناضلون، ناهيك عن الحال الذي نحن فيه ويحتاج لعربة مطافئ. أما أنتم يا زمرة الصابرين فما عليكم سوى الضحك حتى تبين نواجذكم!
نعم كتب سيف الدولة مقالاً في وقت مبكر استبق فيه قول كل خطيب، أي قبل أن يصبح التكليف حسناء يطلب وُدَّها الخطباء. أعلن فيه زهده عن تولي أي منصب عدلي، وأبدى في ذلك أسباباً شخصية واجبة الاحترام ولكنها ليست لازمة القبول. فهو لم يقل إنه يرفض تماماً تولي أي منصب، بما يعني أن الأسباب التي ذكرها يمكن العبور فوقها، لا سيَّما، بعد أن وقف حمار الشيخ في العقبة. علماً بأنه مهما كانت عقبة الظروف التي أبداها فإن الذي لا شك فيه أنها ستتضاءل صُغراً أمام الظروف التي يمر بها الوطن؟ فهل من يزايد على محبة سيف الدولة لوطنه وقد أهرق في ذلك مدادٌ يصعب على الراصدين حصره!
كثيرون منِّا عرفوا سيرة الذين تمَّ اختيارهم في المجلسين من خلال سير ذاتية من صفحتين أو ثلاثة، وهم جميعاً موضع حبنا ومصدر فخرنا، لكن سيف الدولة كان كتاباً نضالياً مفتوحاً عبر مئات من المقالات في الشأن العام بصورة عامة والقضايا الحقوقية والعدلية بصورة خاصة. تكلم في زمن ازوأرت فيه رؤوس كثيرة كانت تحاول اعتلاء قمة المشهد بلا حياء. أما أنا فلا أريد أن أخجل له تواضعاً، ولكني أقر بأن كتاباته مثلت بالنسبة لي ثقافة قانونية وعدليه كاملة الدسم، فمن خلال ذلك تسنى لي معرفة كثير مما كان يجرى في أروقة أجهزة العدل إبان العهد الغيهب وحتى سقوط الطغاة. واعتقد غير مخطئ أن ذلك لسان حال الآلاف من القراء الذي تابعوا ما يكتب بشغف توخياً للمعرفة والإلمام والشحن الثوري!
ولكن لماذا قلنا كل هذه القصة؟ بالطبع الأسباب المباشرة تكمن في ترقب اختيار أهم شخصيتين كما ذكرنا في منصبي رئيس القضاء والنائب العام. قبل ذلك أقول إن ثمة خاصية اقترنت بسلوكنا السوداني المعروف، وهي ممارسة أبغض الحلال في انجاز ما يشتجر حوله القوم في الساعة الخامسة والعشرين. ذلك ربما إننا ملولون وهي ظاهرة أشبه بالهروب إلى الأمام، وذلك حدث في بعض الاختيارات منها من قضى نحبها ومنها ما تنتظر، مثل منصب وزير للثروة الحيوانية الذي أكل عليه الدهر وشرب، وما يزال في انتظار جودو. وفي هذا الخصوص نما إلى علمي أن ثمة ترتيبات لتعيين أحدهم وهو أمر لو تمَّ سيكون كارثياً، ليس طعناً في أخلاقه ولكن باختصار ليس هو برجل المرحلة، ويكفي شاهداً أنه مُرشح من قِبل الفريق عبد الفتاح البرهان بدواعٍ شخصية!
أعلم أنني انتهكت (الميثاق السكوتي) الذي سيطر على المشهد العام بيننا وبين القائمين على قوى إعلان الحرية والتغيير. وكنا أصلاً قد وضعنا في فمنا ماءاً تقديراً لدواعي المرحلة الحرجة وتطلعاً إلى الوصول بهذه الثورة إلى نهايتها القيمية المنطقية، ولم يكن ذلك خشية من حاصب بحجارة من سجيل أو راغب في معركة من غير معترك. لم أكتب يوماً إلا في ما ندر عن شخصٍ، فقد ظللت استهدف ما هو أشمل. ولعل دقة الظرف الذي نحن فيه استوجب ذلك. وأنا الذي لم ير سيف الدولة في حياتي واتطلع لذلك، لكن الرفقة النضالية في السنوات العجاف جسدت بالنسبة لي معنى أن يكون لك أخاً لم تلده أمك كما يقال!
أقول قولي هذا وأختم برجاءين أملحين: الأول قبل أن تفاجئوننا بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، نأمل أن تطرح علينا بشفافية، وبالطبع كنا نأمل أكثر في مناظرات أو لقاءات مكشوفة حتى يستطيع القابضون على الجمر معرفة ليلهم من ضحاهم. ولكن ذلك ما لا يمكن الوصول إليه. أما الثاني فأدرأوا شبهات الخطيئة بالتصويب الثوري الجريء، وتواصلوا مع مولانا سيف الدولة لمعرفة وجهة نظره وتيسير ما يمكن أن نظنه أدنى درجة من نداء الوطن. أدفعوا به إلى جهنم الوطن، فلربما كان (النَفْس الحار) سبباً في أن تكون برداً وسلاماً!
*آخر الكلام:* لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر