خالد فتحي
ما حدثَ في مَجزرةِ (29) رمضان، لا يبارحُ مُخيِّلَتي، زَخَّاتُ الرصاصِ الرَّاعفِ تنهمرُ مَطراً فوق رؤوسِ الثائراتِ والثُّوَّارِ، دماءُ الشهداءِ، وأنينُ المصابينَ، وبسالةُ المعتصمينَ، ولَوْعَةُ الأمَّهاتِ والأهلِ والرِّفاقِ المحزونين لفراق الأحبَّة.
تجاسَرتُ اليومَ على زيارةِ الميدانِ، كما فعلتُ بالأمسِ مروراً على مَتْنِ عربة. ما إنْ اقتربتُ من هناكَ حتَّى تزاحمتْ عليَّ المَشاهِد، تذكرتُ كيفَ تدفَّقتْ جحافِلُنا “عنوةً كِدا واقتداراً” إلى أرضِ الميدانِ غداةَ السادسِ من أبريلَ المجيد، وتذكرتُ كيف قاومْنَا بطشَ الأمنِ والشُّرطةِ والمليشياتِ، ومئاتِ الآلافِ من قنابلِ الغازِ المسيلِ للدموعِ تضربُ الرؤوسَ والأجسادَ، وتُغرقُ المكانَ بسُحبِ الدُّخانِ الكثيفةِ حتَّى لا تكاد تستبينَ أينَ الطريق.
دقَّاتُ قلبي تضطربُ، وأنا أدنو من رُكنِ شَبَكةِ الصحفيين السودانيين في ميدانِ الاعتصامِ، هنا كانَ مقعدي، هنا جلسَ الرِّفاقُ خِفافاً لطافاً يتسامرون، وهم ينشدون “نحن قدامنا الصباح”، يحلمون بوطن واسع، وطن خيِّر ديمقراطي، هُنا علت الهتافات الثوريَّة حتى بحَّ صوتُ بعضِنا من الهتاف والنشيد.
هنا رفعنا الرَّايةَ عاليةً خفاقةً، وتذكرتُ كيفَ بكى الزملاءُ والزميلات، ذارفين الدموع يوم (11) أبريل، بعد أن تواترتْ الأنباء بسقوط الطاغيةِ المخلوع، تماماً كما فعلوا نهار السادس من أبريل، معظم الذين التقيتهم كانوا يبكون من شدّة الفرح بالنصر العظيم.
هذا المكانُ – ركن الشبكة – كان يضجُّ بحركةِ الزملاءِ والزميلات “الصَّابنَّها”، والذين يغشون الميدان أطرافاً من النهار، والذين يعبرون الميدان في المساء، “ركن الشبكة” كان منبعَ ومصبَّ مواكِبنا الثوريةِ إلى داخلِ الميدانِ، وإلى وكالةِ السودانِ للأنباء، وإلى وزارةِ الإعلامِ، وغيرها، حتى الموكب الأخير تضامناً مع قناة “الجزيرة”، قبل غروب شمس (29) رمضان. لم نكن نعلم وقتها أننا على بعد خطواتٍ من المذبحة، وأن أيدي الغدرِ تنسجُ خيوطَها الأثيمةَ لارتكابِ المجزرةِ الداميةِ بعد ساعاتٍ قليلةٍ.
مواكِبُنا كانتْ تُزلزلُ المكانَ، وتعبئُ الحناجرَ بالهتاف:
يا والدة يا شامة
يا فيض من الرحمة
يا واهبة أياما
تمرقنا من زحمة
وتشوفنا قداما
بالصارم الأحمى
تحلم بلادا تقوم
مرفوعة الهامة
من نار حشا الخرطوم
تستلهم إلهاما..
وغيرها، وغيرها من الأناشيد والهتافات و”الكولينق”، تعلو بأصواتِ الرفاق آناء الليل وأطراف النهار، والميدانُ من حولِنا شعلةٌ متقدةٌ بالحياة، يمورُ بثائراتٍ وثوارٍ وقفوا وهم يشعرون بالأمل في غدٍ أفضلَ، منزوعٍ من الخوفِ والتهديدِ والعدوان.
والمتاريسُ ترتفعُ في المكانِ، وحولَها “حرَّاس المتاريس”؛ جنودُ الثورةِ المجهولون، يتلقونكَ بوجهٍ طلقٍ، وهم يغنونَ بكلماتهم التي صارت أنشودة: “ارفع يدّك فوق والتفتيش بالذوق”.. “ارفع يدك حبّة والتفتيش بمحبّة”.. “ارفع تاني حبة والتفتيش في ثواني”.. “موبايلك في يدّك كيزان حرامية”.. ولم يهدأ الكيزانُ ومجلسُهم الانقلابي ومليشياتُهم، حتى سرقَتْ أرواحَهم البهيّة.
في ميدانِ الاعتصامِ أنفقنا الساعات الطِّوالَ تحت هجير الشمس اللافح، وتمدّدت أجسادُنا ليلاً فوقَ الإسلفت الخازن لحرارة النهار، نسترِقُ السويعات في نومٍ متقطِّع، كنّا دائماً حذرينَ من الغدر، وأننا أمامَ عدوٍّ لا يؤمَنُ جَانِبُه، وقد رأينا غدره فجر السابع والثامن من أبريل، وفي مجزرة (8) رمضان، ثم ذروة الغدر بمجزرة (29) رمضان.
كلُّ تلكَ المشاهدِ ازدحمتْ في رأسي، وأنا أعبرُ الميدانَ اليومَ السبت (8) يونيو، وقد تصرَّمتْ أيامٌ ستّة على المجزرة، رأيتُ الميدانَ حزيناً كئيباً، كأنه ينْعِي الشهداءَ الذينَ ارتقتْ أروَاحَهم صوبَ السَّماواتِ العُلا عَبْرَهُ.
رأيتُ بعضَ الجنودِ والمدنيينَ منهمكينَ في طلاءِ الجدرانِ، لمحوِ الشعاراتِ الثوريةِ التي خُطَّتْ عليها، يفعلون ذلكَ ولا يدرونَ أنَّ تلك الشعارات طُبعتْ على قلوبِنا وعقولِنا قبلَ أن تُطبع على تلك الجدرانِ، وأنَّ حِبرها الذي كُتبت به، بعضه من دماءِ شراييننا.
“تاتشرات” المجلس الانقلابي ومليشيا الجنجويد، منتشرة في كل الميدان، مع احتلال كامل لجامعة الخرطوم، حيث ترتكزُ داخلَها وخارجَها بكثافةٍ على امتداد شارع الجامعة، ويؤرقنا السؤال؛ هل كانت “الجميلة ومستحيلة” تتخيل في أسوأ كوابيسها، أن أقدام “تتار القرن الحادي والعشرين”، يمكن أن تدكَّ معاقلها بتلك الطريقة الهمجية، والجنوُد يذرعونَ بأحذيتهم الثقيلةِ شارعَ “المين” دون أن يُدركوا أن العظماء مرّوا من هنا؟
في شارعِ الجامعة أيضاً، رأيتُ بعضَ الجنودِ يبدو أنهم يتبعونَ للجيش، منشغلينَ برفعِ أقمشةِ الخيامِ المحترقة والأنقاض؛ على ظهر شاحنة، وفي شارع الجامعة جنديان، أحدهما ممسكٌ بـ “دردارقة” بكلتا يديه، والآخر ممسكٌ بجاروف يعبئ به “الدردراقة” بالأنقاض.
إزالةُ المتاريس، وفتحُ المعابر، وطلاءُ الجدران لطمسِ الشعاراتِ المكتوبةِ، وإزالةُ الأنقاضِ؛ كلّها خطواتٌ غبيةٌ من المجلس الانقلابي، لإزالة آثارِ العدوان من مسرح الجريمة، لكن هيهات!
لقد رسَمَتْ الأقدارُ لثورةِ ديسمبرَ العظيمةِ أنْ تَمُرَّ بموجات، حيث عَلَتْ “الموجة الأولى” وأغرقت الطاغية المخلوع، وأطاحته من سدَّةِ الحكمِ إلى الأبد، ودون أن يُسمح لها حتى بتذوق نشوةِ الانتصارِ، أو التقاط أنفاسها؛ كُتب عليها العودة إلى ميدانِ المعركة مرةً أخرى، وأفلحت “الموجة الثانية” في الإطاحة بعوض ابنعوف في أقل من (36) ساعة فقط.
وها هي “الموجة الثالثة” تتشكَّل في رحمِ التكوين، لتكتسحَ كل ما هو غثاء في المجلس الانقلابي، ليذهب جفاءً ويمكثُ في الأرض ما ينفعُ الناسَ.
المجدُ للشهداءِ، المجدُ للقابضينَ على جمرِ القضيةِ في الداخل والخارج، ما وهنوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا.
لقد أزهقوا الأرواحَ البريئةَ، لكنهم فشلوا في قتلِ الحلم والأمل. لقد قصفوا أعمار الشباب الغضَّة، وأسكتوا حناجرَهم التي كانت تصرخ: “مدنيااااااااااااااااااو”، لكنهم أخفقوا في خَنْقِ الهتاف، ولا زالت الملايين تضجُّ به. لقد طالت نيرانُهم المنصات والخيام، لكنها عجزت عن مَحْوِ ذاكرةِ المكان من تجاويف الأنفس المطمئنة. لقد أجهدوا أنفسهم لفضِّ ميدان الاعتصام، وحصدوا الأرواح وسفكوا الدماء بلؤمٍ وخسة، لكنّهم خابوا وخسروا، وتحوَّل السودانُ كلّه لميدان اعتصامٍ، وتَتَرَّسَتْ كل الشوارع، بدلاً من الشوارع المؤدية إلى ميدان الاعتصام، وغداً نتأهَّبُ للعصيان الشامل، وبإذن الله سيكون النصر حليفنا، بالسلمية التي هي شعارنا وطريقنا إلى المدنية، حيثُ سِدرةِ مُنتهانَا في الحريةِ والسلامِ والعدالةِ.
الصلاةُ عليكَ يا وطني
السلام عليك يا كفني ويا رحط الجموع
ضيقوا ليتسع الطريق
هي الشوارع علمتنا أن نفيق
أن نبر البرتقالة، أن نموت فدى الرحيق.
2019-06-09