فتحي الضَّو
لا يساورني أدنى شك في أن الذين شاهدوا ذلك (الفيديو) هطلت دموعهم مدراراً بمثلما كان حالي. تلك الأم التي جفَّ الدمع في مآقيها، وما عاد صوتها يقوى على الكلام، وهي تبكي بحرقة وحيدها الطالب الجامعي، الذي وضعت على كاهله الآمال العظام. قالت إنها (تمرمطت في الشوارع) وهذا تعبيرها، من أجل أن يواصل ابنها دراسته، إذ عملت بائعة شاي. وهي المهنة التي لجأت لها ثلاثون ألف امرأة درءاً للفقر في ظل دولة أصحاب الأيادي المتوضئة. وقد أثبتت دراسة ميدانية أن هؤلاء النسوة يعول معظمهن أسراً فقدت الأب لأسباب كثيرة. وثمة (فيديو) آخر شاهدنا فيه ذلك الأب الذي كسا الشيب شعره وما عاد يستطيع الصبر، ففاضت عيونه بالدمع السخين، حزناً على ابنه الطالب الجامعي أيضاً. هذا وذاك كانت تطمح أسرهم بمستقبل زاهر يحقق لهم ما ظلوا يحلمون به!
ذلك بالطبع ما لم يخطر على بال قناصة نظام العصبة ذوي البأس، وهم يوجهون بنادقهم نحو أولئك الشباب ويردونهم قتلى. هو في واقع الأمر لم يقتل طالباً وإنما قتل أمة. فهؤلاء هم عماد الوطن، كان يمكن أن يكونوا أحد الذين يحملونه لمصاف التقدم والازدهار. لكن النظام القمعي الذي تمرس على القتل والإرهاب، وضع حداً لحياتهم وحياة مئات الشباب والطلاب الذين اغتالهم بدم بارد على مدى سنواته في السلطة.
ظل النظام القمعي يفعل ذلك متلذذاً بشهوة القتل التي جُبل عليها، ونحن في كل مرة نزرف الدمع على راحل مضى في انتطار راحل جديد. بتنا كأننا بصمتنا نشجعه على الاستمرار في ذلك الفعل الإجرامي. بل صرنا كمكتوف الأيدي الذي لا يقوى على رد الفعل بما يوازي الفعل بحسب قوانين الطبيعة. لا أعنى مبادلة العنف بالعنف، فذلك ليس من شيمنا ولا عُرف عنا مثله، ولكن بوسعنا أن نفعل الكثير الذي يخفف الحزن عن ذوي الذين فقدوا أبنائهم وبناتهم.
فالشهداء الذين قتلوا في سبتمبر 2013 والذين قتلوا في الأسبوع المنصرم، أي منذ اندلاع ثورة الكرامة، نجد أن معظمهم من الشباب، ويستطيع المرء أن يزعم بأن جميعهم إدخرتهم أسرهم لمستقبل يجنبها الفقر المدقع الذي يعيشه أهل السودان بنسبة فاقت 90% في عهد أصحاب الأفواه المتمضمضة. وكنت قد تساءلت عقب مشاهدتي تلك الفيديوهات الصادمة، ما الذي يمكن أن نفعله لأسر هؤلاء؟ لا سيما، وأن السودانيين في الخارج، والذين بعثرهم هذا النظام في كل بقاع الدنيا، تشير الاحصائيات العشوائية أن نسبتهم بلغت ثمانية ملايين أو يزيد في الثلاثين عاماً العجاف!
بالأصالة عن نفسي أدعو هؤلاء المعنيين في الخارج، بالشروع العاجل في جمع الأموال التي تعين تلك الأسر المكلومة على مواجهة أعباء الحياة، كما أن هذه الأموال ستضمن استمرارية ثورة الكرامة حتى تصل لنهاياتها المنطقية، وهي اقتلاع نظام العصبة من جذوره. مثل هذا الدعم يجعل أدوارنا تتكامل مع من هم داخل السودان، فأنا على يقين بأن الكثيرين يتوقون لفعل يشاركون به الأبطال القابضين على جمر القضية، والذين تحدوا سلطة القمع، وفتحوا صدورهم للرصاص. ذلك في تقديري هو أبسط ما يمكن أن نفعله نحن البعيدين عن الوطن. وأنا على يقين أيضاً أن السودانيين الذين يعيشون في المهاجر المختلفة، سوف يقبلون على ذلك بما يمكن أن يكون الصندوق المقترح دعماً للوطن كله، خاصة وأن ثورة الكرامة لن تحقق غاياتها إلا بإنقاذ الوطن من الفقر الذي أصبح مشاعاً بين الناس!
أخاطبكم طامحاً ومتأملاً، فقد كنا عوناً وسنداً لبعضنا طيلة سنوات التيه والضلال، نؤازر بعضنا بعضا، ونتدثر بإرادة قوية للوصول إلى تلك الغاية النبيلة التي تلوح لنا الآن في الأفق. إننا نعيش لحظة المخاض التي تسبق ولادة الحلم. لحظة الخلاص التي عملنا من أجلها وانتظرناها طويلاً باتت أقرب إلينا من حبل الوريد. وما أجمل الحلم الذي يأتي عقب عناء وشقاء. وقريباً سيعيش الوطن ساعة الميلاد الكبرى!
إنها ضريبة الوطن.. ومهر الحرية
فلنتدافع لجمع الأموال أولاً وسنرى ماذا نحن فاعلون بها ثانياً.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!