السودان منذ الاربعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضى، كانت امسياته صاخبة بجلوس الأسر والأصدقاء أمام شاشات السينما في دُور العرض. هو زمن إستثنائي منح سكان المدن، فرصة التحليق بين العالمي والعربي، حتى سرت بين الناس حكايات أبطال (هوليود)، الذين تربعت أسمائهم على عرش الموضة وأغناني البنات في تلك الفترة، السخية التي جادت بُدور عرض سينمائية وسينما متجولة تنشر ثقافة السلام وتحارب العادات الضارة، ولكن تغيرت ملامح الزمان والمكان ولم تعد هناك دُور عرض سينمائي. (دارفور 24) بحثت في القضية عبر التحقيق التالي.
مشهد أول
مرت السنوات وأخذ المشهد يتوارى حتي تلاشى ولم يعد هناك صخب لليالي المدينة، حيث اطفأت تلك الدور الأنوار ليس ايذاناً ببدأ العرض بل إنتهاءه، وضعت (الضبة والمفتاح) علي أبوابها، ولم يبقى منها سوى لافتات وبقايا ملصقات ممزقة تخبر المارة عن هوية المكان الذي أوصد فى وجه جيل باكمله سمع عن سينما كلوزيم والنيلين وقاعة الصداقة، والوطنية دون أن يمنح تذكرة للدخول اليها والجلوس في (اللوج) الذي تسخره الظروف.
سينما (الوطنية بانت) بامدرمان، كانت محطتنا الأولى في رحلة البحث عن دور عرض تعمل، وجدنا المبنى العتيق المحاط بسور خارجى مشيد من السلك (الشائك)، مغلق وقفنا نتأمل ماضى المكان لم تطول وقفتنا حتى أتى الخفير وفتح لنا الباب دلفنا للداخل. السكون يخيم على المكان. (البترينة) الزجاجية مازالت تحتفظ بإعلانات الأفلام، يغطيها غبار كثقيف، والمكاتب مغلقة، أما ساحة العرض لا حول لها ولا قوة، مطموسة الملامح ومكان الشاشة يملاؤه فراغ عريض على الحائط، والمدرجات خاوية على فراق الأمسيات الصاخبة.. أذن كيف توارى المشهد وأصبح مجرد سراب يحكى وكأنه من وحى حكايات ليلة والف ليلة؟.
غادرنا سينما (بانت امدرمان) فى ذلك النهار بحثاً عن دُور عرض تعمل، وقفنا عند سينما كلوزيم المطلة على شارع القصر فى قلب العاصمة، ووجدنا أبواب العرض مغلقة والمكان أصبح مقراً لأحد البنوك هو “بنك فيصل الاسلامي”، لم يبق أمامنا فى رحلة البحث سوى سينما النيل الأزرق (مقر مؤسسة الدولة للسينما)، الواقعة فى شارع النيل الخرطوم، كانت تدب فيها حركة وعند استفسارنا عن هوية المكان علمنا أنه تحول لاذاعة صوت القوات المسلحة.
بديل رخيص
على مدى أيام بحثنا فيها عن دُور العرض السينمائية فى الخرطوم ولم نجد سوى أبواب مغلقة في وجه جيل باكمله. كيف اغلقت تلك الأبواب التي ما زالت في كل دول العالم مفتوحة ومزدهرة؟
الأستفهام أعلاه وضعنا على منضدة أحد المساهمين فى سينما الوطنية (فضل حجب أسمه) فتحدث الينا عن تاريخ بدايتها الذي كان في العام 1942م أي في الوقت الذي كانت اوربا وامريكا لا توجد بها شركات سينما، وافريقيا تعيش في ظلمات القهر والإستعباد، في ذلك الوقت كان للسينما دور ثقافي حيث تتنقل عبر وزارة الثقافة، للأقاليم التي لم تصلها خدمة الراديو، فهى تنقل أخبار الحكومة والإستقلال. بلغت تلك الدور قمة ازدهارها حتى بدأت تتراجع بسبب الضرائب المفروضة عليها وعلى الافلام المستوردة، وقال: إن سوء الادارة لعب دور فى اغلاق سينما الوطنية وبيعها رغم القيمة الثقافية والوطنية، الأمر الذي أدى لخسائر فادحه للمساهمين، وتأسف على حال السينما في السودان التى أنتهت وصار البديل هو المحلات الرخيصة التي تروج للمخدرات، في الوقت الذي تدعم فيه الدول صناعة السينما، ماعدا السودان، متساءلاً لمصلحة من تغلق دور العرض؟ على الرغم من إختلاف أماكن العرض إلا أن الفلم المعروض واحد وهو (دور مغلقة بالضبة والمفتاح).
وزراة الثقافة
تعليقات ساخرة طالت مهرجان الفلم العربي الذى احتضنته الخرطوم فى شهر أكتوبر، حيث تندر رواد مواقع التواصل الإجتماعي من الفعالية الخاصة بالإنتاج السينمائى فى بلد ليس به انتاج سينمائى ولا دُور عرض. تلك المفارقات طرحناها للإدارة الفنية بوزارة الثقافة والسياحة والاثار والتى تختص بشأن السينما ودُور العرض، جلسنا إلى الأستاذة فريدة محمد علي، وأمين حسين، من إدارة الفنون السينمائية بالوزارة، وحسب قولهما إن السينما قبل عام (89) كانت تشرف عليها مؤسسة الدولة للسينما حيث كان الفلم يُعرض فى الولايات المتحدة الأمريكية والسودان فى ذات الوقت وتم عرض مجموعة ضخمة من الأفلام الحائزة على جائزة الأوسكار حيث تقوم المؤسسة باستيراد وتوزيع الأفلام على دورُ العرض في جميع انحاء السودان حسب الخطة الموضوعة انذاك.
بعد عام (89) بدأت دُور العرض تتساقط حسب حديث (فريدة وأمين) وأن السبب الرئيسي هو حل مؤسسة الدولة للسينما ومن ثم تدني الدخل وأن أصحاب رأس المال في السودان باتوا يعتبرون الدخول فى صناعة السينما أمر خاسر لأن الحسابات لديهم تقوم على الربح وليس الرسالة، رغم أن صناعة السينما تعد مصدر دخل بدليل أن مؤسسة الدولة فى أخر أيامها كانت تسمى بـ (البقرة الحلوب).
تجار الشنطة
اتفق (محمد عمر) مسؤول مخازن الأفلام بمؤسسة الدولة للسينما سابقاً حول ما ذهبا إليه (فريدة وأمين) وأضاف (محمد) أن المؤسسة تم حلها لصالح تجار الشنطة لأنها لم تكن مؤسسة خاسرة حيث كانت ذات ايردات عالية وأن القنوات لم تؤثر على السينما كما يشاع ولكن سوء الإدارة كان سبباً فى ذلك الفشل الذي أدى لإغلاق الدُور.
المشهد معتم ولكن بارقة أمل في الطريق بحلول عام 2019م الذى أطلق عليه عام السينما حسب إدارة الفنون السينمائية بالوزارة التي أكدت احياء السينما المتجولة من جديد مطلع العام المذكور لأن هناك مناطق ما زالت تحتاج للتوعية والارشاد خاصة المناطق المنكوبة بالصراعات مثل ولايات (دارفور)، أضافة لأنشاء أستديو سينمائي لأنتاج الأفلام التى تدعم الغرض وستكون هناك ورش بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والتركيز على سينما الشباب، والمشاركة في المهرجانات التي خرجنا منها بسبب تقليل الصرف عليها.
نهاية التحقيق لم نجد دار عرضاً سينمائية واحدة تعمل حتى سينما قاعة الصداقة أطفات الأنوار كاخر دار عرض، وكشفنا إزدهار نوعاً جديد لعرض الأفلام وهو أندية المشاهدة في الأسواق الطرفية والمشيدة معظمها من (الشولات) وتعرض افلاماً خارجة عن الرقابة هل هذا هو البديل الذى اختارته الدولة؟