دكتور الوليد آدم مادبو
الحلقوتي يعتقد أنّ الحل دوماً بيده وانْ لا حيلة لأحد في البقاء إلاّ بقوته (الحل)(قوتي)؛ هو نموذج مستنسخ من الكمبرادور بمعناه السياسي والاقتصادي (الذي طالما نبه لفعاله أبكر آدم إسماعيل في كتاباته)، هي شخصية أدمنت الفهلوة واحترفت الإجرام فاستحالت عبر الايام إلي مسخ لا يري حياة له إلا بمعاناة ضحاياه، حتماً ليس هلاكهم، لأنهم إن هلكوا فلن يجد ما يتغذى به وذاك هو الهلاك الحتمي له — حاله حال الدودة الشريطية مع الإنسان، لعلها إحدى حالات التماثل النادرة بين السياسي والبيولوجي، إذا جاز لنا أن نستعير تعبير الإنسان النابه دكتور الفاضل الملك والذي يورد هذا التعبير في سياق علمي بحت لا صلة لها بالتسيس.
إذا كان الكمبرادور له أسس منهجية يحتكم إليها، وإن كانت غير عادلة أحياناً، فالحلقوتي لا يرجو التعافي الاقتصادي لضحاياه. كما أنه لا يفضل موتهم. أمَّا الحلقوتي بمعناه السياسي، فإنه بمثابة “الشفته” الذي لا يري مصلحة في تقارب وجهات النظر بين متخاصمين يتكفل بحماية احدهما والزود عن حياضه بين الحين والأخر. من هنا نفهم طبيعة تبادل المنفعة بين نخب الريف التي نَصَّبَت نفسها “شفته” يزود عن حياض أهله، لكنه لا يرجو لهم التعافي، و “الإنقاذي” الذي ينتهز هذا المناخ العكر ليروج لمصالحه غير مكترث لما قد يصير إليه أمر الاثنين.
ظهر دور الحلقوتي جلياً في شأن (وادي الزرق) والذي تبادلت فيه نخب الرزيقات والزغاوة السُباب قبل أن يتبين لهم أنها مجرد تحركات أراد المركز كعادته تعكير السلام الاجتماعي النسبي بها، وها هو يطل برأسه ثانية في شأن (الرزيقات والمعاليا) الذين تجاوزا “الوثيقة” إلي التعايش لكن النخب (في هذه السانحة الحلقوتي السياسي) لم يعجبها هذا الأمر فتعالت أصواتها ونادت بضرورة إرجاع الفريقين إلي “اتفاقية مروي” وكأن مروي هذه هي “بيعة الرضوان”، وإلي أخره من المخازيا التي لا تنتهي في هذا البلد. وإذا انشغل الحلقوتي السياسي أو الاقتصادي، فهناك الحلقوتي الإعلامي الذي يطل علينا من قناه S24 أحياناً مستضيفاً أناساً بغرض استدراجهم وليس استنطاقهم. إذن الحلقوتي هو نموذج الإنسان التافه الذي لا ينتمي إلي ملة أو فريق بعينه إنما تستفزه المصلحة التي كثيراُ ما تتطلب التوفيق بين الطموح الكبير والإمكانيات البئيسة.
رغم العسف الذي صحب محاولة نزع السلاح في دارفور وعدم عزم الدولة على معالجة جذور الأزمة إلاَّ أنها، اي الدولة قد نجحت — مستخدمة ذراعها الحيوي، الدعم السريع — في تقليم أظافر سمسارة الحرب المحليين. فانخفضت وتيرة الحرب، إذا لم نقل إنها قد انعدمت بالكلية. وهاهم الرزيقات والمعاليا يسيرون في مُرحال واحد تربطه أواشج الأخوة الدينية قبل المصلحة الدنيوية. لعل هذه الهدنة لم تعجب سماسرة السياسة المركزيين — هؤلاء الذين لم يتضرروا يوماً بالحرب ولم يصبهم لهيبها، حتي هرع كلا الفريقين الي نائب الرئيس الجديد يطالبونه بإعادة النظر في ” إتفاقية مروي”، محواً أو تثبيتاً. وهذه لعمري مناشدة من لا يملك لمن لا يستحق. إن نخباً بهذا الأفق الخفيض لا تستحق أن تمثل أهلها، كما إن كِبِر (أو غيره من “الغرابة”) لا يملكون قراراً في “دولة الإنقاذ”. فلماذا تصر النخب الدارفورية علي إحراجهم بالتودد إليهم أو إضمار العداوة لهم، علماً بأن الأولى هي بمثابة الإعجاب بجلد الأفعى والثانية تشبه محاولة الإمساك بدبرها؟ لماذا استمرأ الكل الولوج دون هوادة في هذا المستنقع؟ لماذا لا يبحثون عن حيلة أخري للتكسب؟ حتي متي يستمر هؤلاء الولهين المُسْتَهلكين في محاولتهم للاستحواذ زوراً علي المبادرة السياسية القبلية؟ لماذا لا يفسحون المجال لأجيال لديها برحة من المعافاة وسعة الأفق؟
لن أخوض في شأن الرزيقات ومعاليا، وقد رفضت من قبل الخوض في هذا الشأن إلا بالحسني. وظللت اكرر بأن وأجبنا الوطني يجب أن ينصب لا أن ينحصر في محاولتنا لتفكيك دولة المركز. حينها نستطيع البحث بصورة علمية ومنهجية عن أفق تنموي يغني أهلنا عن الحاكورة بمعناها المتخلف – الذي يختلف تماما عن نظرة الأولين لها – ونسعى للتحليق في آفاق استثمارية عالية تشمل الصناعات الغذائية التي تقلل الضغط علي الارض بتحويل ثلثي ثروة البقارة — والرزيقات خاصة باعتبارهم الفصيل الأغنى — إلي رأس مال متحرك، وتساعد علي إدخال الزراعة الآلية الي “قوز المعاليا” أو “وادي الزرق” فتتكامل حينها مصالح الفريقين وتنعدم العداوة غير المبررة (وذلك كله دون إنكارٍ للرواية والحق التاريخي اللذين تحفظهما الذاكرة الجمعية، أو تجاوزٍ للحقائق الموضوعية التي يتضمنها أرشيف المكتبة الوطنية، إنما انتظارا للساعة التي تتوفر فيها إرادة سياسية تتوخى الإصلاح وتنتظم لحينها سياسة إدارية لا يسعها غير الالتزام بالموجهات السيادية والمحددات الدستورية اللاتي يحميهما الوعي الجماهيري قبل القوات النظامية). بل الغاية الأسمى تتمثل في تكوين شركات مساهمة وطنية يسهم فيها جميع السودانيين ولا تقتصر المنفعة فيها حصرياً على الكمبرادور. أمَّا الأن، فإن الرزيقات والمعاليا يَشْقُون في رعيهم وفي حرثهم، ويجني الثمرة غيرهم. إن لُعاب سيقا وتيقا وويقا يسيل لمجرد النظر أو التفكر في شأن الأراضي المهولة من القوز التي يمكن أن تسخر لزراعة الفول السوداني الذي يحتاجه العالم بشدة، والمنطقة العربية والأفريقية، بل العالم في حاجة ماسة للحوم.
إن “الإنقاذي ” بوضعه الحالي لا يسعه أن يلعب غير دور الكمبرادور الذي اوكل له تاريخياً من قبل النخب الإقليمية، أمَّا “الغرابي” فيقوم بدور “السبابي” (السمسار) الذي تنحصر مهمته في توصيل دور البضاعة الي الخرطوم، بهائم كانت أو محاصيل زراعية. حتي لا يتهمني أحد بالعصبية، وإذا شئت العنصرية، فأود أن أطمئنه أو (أطمئنها) إلي انني أتكلم بمنطق تنموي بحت. إن إرسال لحوم حية إلي مصر يفقد السودان 75% من قيمة البهيمة ومن ثم يفقده عملة صعبة تؤول كل وقت وحين إلى غيره. بغض النظر عمَّن سيجني هذه النسبة، فأنا أريدها سودانية، وبعدها نفكر في طريقة اقتسام هذه النسبة بطريقة تحقق استدامة المُنْتَج وازدهار المُنْتِج. بالله عليك فكر في الطريقة التي تعاملت بها النخب المركزية مع الصمغ العربي، كلهم — باستثناء قليل من الرجال المخلصين والوطنيين الذين تولوا إدارة هذه المؤسسة — عبثوا بالمُنْتِج فلم يفكروا في إجراء بحوث، زيادة الوعي الإنتاجي، أو توفير بنية تحتية. النتيجة أن غابات أُحرقت وأزيلت، البضاعة هُربت إلي دول الجوار، المزارع هجر المهنة، إلي أخره من المآسي التي لا تهم الكمبرادور، لكنها تهم سادته الرأسماليين فهم يحتاجون الصمغ في كل صناعاتهم الغذائية وانعدام هذا المُنْتَج الحيوي يعني انحسار أرباحهم ودمار طموحاتهم.
لا يمكن أن نُعَوِّل علي هذه النخب، ولذا فعلينا تكوين جمعيات طوعية تناشد الرأسمالية تحمل مسؤوليتها الاجتماعية مثلما فعلت النخب الاثيوبية في فترة من الفترات، التي ألُزِمَت الرأسمالية فيها بتخصيص نسبة لا تقل عن 10% من الأرباح لتقديم رعاية صحية، زيادة الوعي الإنتاجي لمزارع البن، تطوير الأبحاث وتشييد بنية تحتيه تعين علي نقل المحاصيل. استنكف “الرجل الابيض” في بادئ الامر من هذه المطالبة، بل هدد بإيجاد مصادر بديلة. لم يفعل المبادرون بعقد هذه الجمعيات أكثر من تصميم موقع إلكتروني عرضوا فيه صور لحالة المزارعين (65% من الزراع في افريقيا نساء)، فانتبه الضمير الإنساني لقسوة هؤلاء الرأسماليين الذين لا يوقظ الاحراج ضمائرهم، ولكنه يستفز عقولهم ويدغدغ جيوبهم وبطونهم المتخمة، بمعني أخر “عالم تخاف ما تختشيش”!
هل فكر الرزيقات الممسكين بوثيقة مروي والمعاليا الرافضين لها في شأن الاستثمار التنموي الذي يمكن أن ينقل ابنائهم وأحفادهم الي خانة غير هذه الخانة، أم أنهم يفضلون التشاجر مع بعضهم البعض، علي التفاكر مع الكمبرادور؟ لعل هذه عقدة نفسية تحتاج إلي طبيب متخصص، وهزيمة معنوية متأصلة تحتاج إلي تربوي بارع، فقد عجز الساسة عن معالجتها بما يملكون من ملكات متواضعة. ما الذي يستفيده المعاليا بالحصول علي ملكية مقننة في الأمم المتحدة بالقوز؟ هل يسعى الانسان في هذا الزمان علي حصر نفسه في ساحة لا منفذ لها، أم إنه يعقد مخالفات تمكنه من التمدد والانفتاح؟ بل ما الذي استفاده الرزيقات من الارض الفسيحة الممتدة التي يتنقلون فيها صيفاً تجاه دحيل الدابي، بورو، سماحة، ويتعمقوا جنوباً تجاه أويل، فوق مشار، البطحا، نجاميل دحول عثمان. وإذا ما طفقوا راجعين، فهم يتجهون من الضعين تجاه كليكل ابو سلامة البركة، كلاجو، مهاجرية، الدبكاية حمادة، إلي أن يصلو الي الفاشر .
هذه الرحلة تتفتق فيها اشواق وتتعمق فيها شراكات مجتمعية، ليس ايسرها ما يعقد مع إنسان الجنوب الذي ظلمه الساسة والعسكر الشماليين مرتين، مرة عندما فصلوا الجنوب، ومرة أخري عندما أتخذوا كافة السبل السياسية والإدارية للحيلولة دون تواصله مع إخوانه وأشقائه البقارة الذي يقطنون البحر (بحر العرب) بطوله الوافر — إنساناً والموفور كياناً. حتي إنهم عندما اعتزموا فصل الجنوب، أو تلقوا تعليمات بفصله لم يفكروا في إحداث آليات للتواصل الثقافي والمجتمعي. ببساطة هم لم يروا في هذه السهول طقوساً وإنساناً عزيزاً، هم رأوا بترولاً ومادة خاماً يمكن أن توظف لإثرائهم، وليس إثراء الدولة وتحسين مواردها. هل يختلف اليساري الليبرالي أو العلماني من الانقاذي أو السلفي الإسلامي في شأن العداء للهامش والغرب خاصة؟