بملامحهم المرهقة يواصلون تنقيبهم من قمامة إلي أخرى، بحثاً عن رزق فى تلالها، تاركين أهواء الطفولة وراء معاناة الفقر، التى جعلتهم أصدقاء لمملكة النفايات والشمس معاً، فقط من أجل أحلامهم البسيطة لقمة عيش تسد الجوع أو تلبية رغبات عجزت أسرهم من توفيرها.. فلا الشمس الحارقة تقصى خطواتهم للوراء ولا معاناة التجوال وقطع المسافات البعيدة تمنعهم من ممارسة مهنة محفوفة بالمخاطر، وهم على سطح الزجاج المكسور وغيره من النفايات غير الآمنة.. دار فور (24) تواصل الرحلة معهم حتى المكب وهم يرون قصص كفاحهم من أجل البقاء عبر هذا التحقيق.
(كارو) الأحلام
مع طلوع الشمس وبعد أن يرتشف كوب الشاى الصباحى، يحزم الطفل (أبراهيم) أغراضه ويبدأ في تجهيز عربة (الكارو) وينتظره رفقاء المهنة، والحماس يزيدهم نشاط لبدء يوم جديد في تلال القمامة.. (أبراهيم) ذلك الصبى الوسيم الطلة الذى لم يتجاوز عمره (12) عاماً ترك له والده مسؤولية أسرته وكأنه تركها لفتى بلغ أشده وليس صبى غض الجسد.. هو أكبر أخوته ترك الدراسة بسبب ظروف الأسرة المادية، وكله أمل أن يعود إليها حسب وعد والده الذى سافر خارج العاصمة بحثاً عن تأمين قوت لصغاره، تاركاً خلفه سنده البكر في إعاله الأسرة الصغيرة من عربة (الكارو).. يخرج (أبراهيم) صباحاً كل يوم قادماً من أطراف محلية كررى أمدرمان إلي وسطها وعلى متن عربته مجموعة من الباحثين، تتشابه ظروفهم لدرجة تظن أنهم من بيت واحد، ولكنها المعاناة وحدها التى خلقت ذلك الشبه.
كنت أتحدث إليه ورأسه مصوبة على أرض (الكوشة) يتفحص بنظراته المكان بدقه عله يجد شيئاً، وبخبرته في المجال صار متخصص في جمع الزجاجات الفارغة وهى أغلى ثمناً من علب القارورات البلاسكية. البحث عن زجاج فيه نوع من الصعوبة لأن معظمه يكون غير صالح للبيع، ورغم ذلك تجده مثابر فى العمل دون يأس وبقيه مجموعته ينتشرون بحثاً عن (الخرد) وكل فرد منهم يحمل على ظهره (شوال بلاستك)، وبعد يوم حافل بالمشقة والتعب يعود (إبراهيم) مع مجموعته على ذات العربة الـ (كارو) ويتحصل منهم على إجرة اليوم البالغ قدرها (10) جنهيات.
أطفال اباء
(آدم) الطفل ذو الـ (13) عاماً، غاب والده عنهم بحثاً عن الرزق ولكن طالت رحلة بحثه التى إمتدت لعامان.. لم يكن أمام الصغير خيار سوى مساعدة والدته في أعباء الأسرة، بما يتحصل عليه من جمع (الخرد)، حيث ينطلق صباحاً مع (إبراهيم) بعربة (الكارو)، عقب انتهاء عامه الدراسى بنجاح يعد تفوقاً نسبة لظروفه والمعاناة التى يعيشها من أجل لقمة العيش.
والدته تكابد في رحلة ذهاب تبدأها صباحاً لسوق أمدرمان للعمل في بيع الشاى، الطفل وأمه يحاولان سد فراغ الأب وهو يجمع من عمله في اليوم حوالى (30 ـ40) جنيه يدخر منها مبلغ بسيط لشراء ملابس.
هم صغار وجدوا أنفسهم في محك المسؤولية مثل الاباء تماماً، يتحملون وذر غيابهم.. (أبراهيم وآدم) مثلهم تماماً في معركة الحياة اليومية في أكوام النفايات الطفل (أشرف) الذى غاب عنه والده حوالى العام، تحملت أمه مسؤولية الصغار بعملها في داخلية بنات، ولكن ما تتحصل عليه ليس كافياً، لذا ولج عالم النفايات، وما يجنيه من مال يشترى به حليب لأخيه الصغير وحلوى لأخواته حينها يشعر بالفرح عندما يرى الإبتسامة على شفائهم الصغيرة، رغم أنه أحياناً كثيرة يعود للمنزل ولا يجد ما ياكله.
معادلة صعبة
هى الحياة بمعادلتها الصعبة جعلت من هم في عمر الطفولة يكونوا أباء، يرعون أسرهم بما تيسر، من عمل يعرض حياتهم للخطر، ويدفن طفولتهم تحت القمامة.. الملابس الرثة التى يرتدونها والشعر الأشعث المغبر والعيون شبه الدامعه تجسد كل ملامح التشرد ولكن ما أن تعيش نبض حياتهم اليومى من المنزل إلي مكب النفايات ثم محل بيع الخرد تشعر بمأساة كبيرة داخل قلوب صغيرة، لأطفال يجمع بينهما قاسم مشترك هو غياب أبائهم.
عندما يدور قرص الشمس ناحية المغيب يكون (إبراهيم) ومجموعته قد أنهوا عملهم وتحصلوا على جنيهات ثمن بيع الخرد، وعلى ذات الطريقة التى أتوا بها يعودون مع (أبراهيم) بعد دفع الـ (10) جنيهات له ثمن الأجرة المتفق عليها.
مخاطر نفسية
طفولة في مكب نفايات ماذا تخبئ لها الظروف وأي خطر نفسى يحيط بها؟ الدكتور نصر الدين أحمد إدريس رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية تحدثا إلينا في الموضوع قائلاً: النظر لهذه الفئة يحتاج لرؤية شاملة حتى نستطع أن نفهم طبيعة الظاهرة الجانب الإقتصادى هو المدخل الأساسى لأن الدافع الحقيقى للخروج للعمل هو الكسب لهؤلاء، ومن خلال الملاحظات بشكل عام سألنا الجميع من حيث السكن والوضع الإقتصادى أنهم يصنفون من فئة معينة.
أما فيما يتعلق بعمل الطفل يرى نصر الدين أن الثقافة السودانية تشير عادة أن الأطفال في فترة العطلات يساعدون أسرهم سوى أن كان فى الحقل أو غيره وهذا يكسب الطفل بدايات لتحمل المسؤولية، هذه القراءة لا تنفصل عن ذات القيم القديمة مقارنة بعمل هؤلاء (تدوير النفايات) إلا من خلال شيء واحد وهو طبيعة العمل في هذه المهنة المشقة والإرهاق والتعرض للمخاطر من الأمراض والمسافات والنقل وغيره في مقابل عائد مادى قليل لا يكاد يفئ بشيء، ولكن هى الفرص المتاحة، أمر أخر يجب الإشارة إليه وهو طبيعة هؤلاء الأطفال لأن جزء كبير منهم يلتحق بالعملية التعليمية وهذا يؤثر على تحصيلهم الدراسى وإستمراريتهم في التعليم خاصة وإن الأطفال أذا ما تكسبوا مالاً يكونوا في حالة مقارنة مع إستمراية المال والتعليم وخيارهم أغلب الأحيان يكون على حساب التعليم.
هناك جانب لابد من الإشارة إليه وهو الضغوط النفسية التى تنشأ من خلال هذه المهنة فالأطفال لم تتكون لديهم (بنية نفسية) متكاملة مما يؤثر ذلك على عدم تحملهم للضغوط النفسية وبالتالى يمكن أن يؤثر على تكوين نفسية الطفل مستقبلاً، وجزئية أخرى طبيعة هذه المهنة تعرض الأطفال للإصطدام باشخاص ليس بمسؤولية وأحياناً يكون منحرفين وهذا ما يفسر إنتشار كثير من السلوكيات (المخدرات) وغيره، الأمر الذى يعرضهم للضياع .. في النهاية لابد من الإشارة إلي أن هذه الظاهرة تستحق أن تدرس علمياً حتى يتم تشخيصها بشكل دقيق فمن خلال المعلومات البسيطة لا نستطع أن نصنفهم بأنهم أشخاص غير مقبولين لأن جزء كبير منهم يكون فاقد الأب أو لديه مشكلة أسرية، وأيضاً منهم من يتعامل بمسؤولية كبيرة جداً وهو أن يتولى إعالة أسرته، لذلك نحتاج لدراسة حتى نوفر المعلومات اللأزمة لجهة الإختصاص وتستطع أن تقدم ما يفيد وينفع في إطار المسؤولية العامة.