في الغالب تقاس المدن، بالرقي، التنظيم، العصرية وذات شوارع عامرة بالمحال التجارية الفاخرة، لكن مدينة زالنجي اختارت ان تكون الطبيعة البكر هي المقياس الأوحد. تحيطها الجبال من كل الجوانب وتقسمها الوديان الموسمية الى تحف فنية رفيعة المستوي، يطغي عليها اللون الأخضر بدرجات مختلفة، تنخفض درجة الأخضر هنا كلما نظرت الى أعلى عند سفوح الجبال ثم يختفي بين السحب، ظننت ذلك لوهلة! لكن كان ذلك طريقة التواصل بين الأرض والسماء…لحظات تكونت السحب ثم هطلت أمطار غسلت عيون الشمس.. فانكشف الأخضر الغامق على قمم الجبال.
الطبيعة هنا لها تأثير كبير على كل أشكال وانماط الحياة من طعام، ملبس وشكل، العمارة والاثاث المستخدم، جميعها من صنع الانسان المحلي من المروج الخضراء، جميع السكان يهرولون من كل صوب لتعمير سوق المدينة.
يعد سوق زالنجي الواجهة الوحيدة لسكان المحيط، تنتشر الفواكة الاستوائية، المهجنة والمحسنة بجانب الخضروات الطازجة، السلع الواردة من دول الجوار وبما تجود به مصانع السودان على قلتها… البضائع خرطومية الصنع باهظة الثمن وأسعارها مضاعفة، بالرغم من ذلك يحبها السكان.
عندما سألت عن سر تلك المحبة لم أجد اجابة لفضولي.. هربت ذاكرتي إلى الغابات الاستوائية عندما كنت أعمل بمدينة جوبا! كانت السلع الواردة من الخرطوم تنفذ من الأسواق قبل ان تقلع طائرات الشحن لتعود الي الخرطوم.. هروب الذاكرة لم يساعدني كثيرا في اجاد الاجابة، علق السؤال بذهني، في احدى الليالي الماطرة انقطع التيار الكهربائي منتصف الليل، حصنت نفسي من لسعات الباعوض بناموسية مشبعة، لم أخلد للنوم في تلك الليلة افكر في ذاك السؤال؟ مع طلوع الفجر وجدت الاجابة ” التذوق” يدفع الناس الى الاستهلاك! هتفت خلايا مخي منتصرة، ثم صمت قليلاً وقالت لم يكن هذا الاستنتاج مني! لكن من معلومات علم التسويق التي اختزنها! اذن لماذا لا يسوق الانساني المحلي الخضروات والفواكه واللحوم؟ اعتقد من تذوقها مرة سوف تصبح علامته التجارية المميزة… في هذه المدينة التاريخية قام أكبر مشروع زراعي “مشروع جبل مرة” الذي انتج بزور وصنع لها بنكا وعرفت تجاريا باسم المشروع، ادخلت الزراعة الحديثة وشيدت مباني تتناسب مع طبيعة المنطقة التي يفخر سكانها بالمطر الغزير والتربة الخصبة التي تحصنها الجبال من التعرية.
معظم السكان يتحدثون اللغة العربية العامية، بجانب اللغات المحلية الأخرى، اللافت تتداخل اللغات، الأعراق والاثنيات، يفهمون بعضهم دون ان يترك أحدهم لغته الأم.. يكمن السر في “الدبنقاوية” أحد أشكال الادارة اللامركزية في عصور دولة الفور. “الدبنقاوية” تتبوا مكانة مرموقة بين المكونات الاجتماعية، لما لها من تقاليد وأعراف صنعت التعايش بين التباين السكاني. هنا يؤمن الناس بالعمل والتعليم، الكل في نشاط دون استثناء “النوع” او “العمر” الغالبية تحلم بسد الرمق اليومي والرفاه في يوم ما.. لذا يتدافعون للالتحاق بالجامعة التي تبتعد منهم مسافة الساحة الشعبية التي تقع امام امانة الحكومة.
انها جامعة زالنجي التي تتمدد وسط المدينة، تستقبل الطلاب الذين قطعوا المسافة الهائلة من اواسط الصحراء، الجبال والأراضي الخصبة من الناحية الجنوبية الغربية حتى الحدود الفاصلة بين السودان ودولتي تشاد وافريقيا الوسطي. تتيح جامعة زالنجي الفرصة لتعلم قيم وثقافة التسامح وترسيخها، فيعود الطلاب الي مناطقهم يحملون تجربة مختلفة… لأن مدينة زالنجي تحمل سمات المدن العريقة في اقليم دارفور، لكنها تشكلت بتاريخها، سكانها وطبيعتها مما يدفع من يدرس بها او يعمل بها لا يجرب العيش في مكان آخر.
يعد يوم “الخميس”من كل اسبوع يوما لأكل اللحم.. الزائر عليه مراجعة طبيب الاسنان عند عودته. رائحة اللحم المشوي تنتشر في المدينة تحفز شهية الصغار والكبار.. أكل اللحم هنا ليس طعاما لكن! عباره عن ثقافة توثق العلاقات بين السكان المحلين والزائرين معا.. يتحرك الموظفون قبل انتهاء الدوام في ذاك اليوم، يتدافع الطلاب والتجار وغيرهم في مواكب منهم من يمتطي اقدامه والآخر يمتطي وسيلة النقل الوحيدة “الركشة” التي تتأرجح في الشوارع الفرعية لطبيعتها الحجرية.. تبلغ ذروة السوق بعد الثانية ظهرا ترتفع القهقهات مولد طاقة دفع تحمل السحب الدخانية فتغطي المدي رائحة الشواء والبهارات الطبيعية، يستغرق الشواء وقتا طويلا لكن الباعة يجهزون مئات الأجزاء قبل بدء السوق، تعرف عملية الشواء بـ “المناصيص” ومفردتها “منصاص” يقدم بطريقة مميزة يزين البصل والثوم المائدة من ناحية وصحون المقبلات والمشهيات نحو “المرين” والشطة “الدنقابة” من الناحية الأخرى وبينها جبل من لحم التيس الطري.
قلت لنفسي إن الأمطار الغزيرة هنا ربما يساعد في هطولها الدخان المتصاعد من الشواء طوال أيام الاسبوع!! ثم تبسمت واحسست بالراحة.. اسمع الجميع يدعو الآخر لتناول الطعام… عندها علمت ان أكل اللحم هنا “اسلوب حياة” يتشارك الناس الأكل سواء مع مجموعة من الأصدقاء، الأسرة او اكرام ضيف زائر.. فكنت من فئة المكرمين في ذلك الخميس، بعد ان التهمنا كمية مهولة من اللحم جلسنا في حلقة تحت الرزاز نتبادل أطراف الحديث بعد ان تناولنا سلطة الفواكه ومشروب يطلق عليه “سنتين” اي اذا شربته لا تصاب بالملاريا لمدة سنتين ويطلق عليه باحد اللغات المحلية “الدري”.. كنت لا أستطيع التنفس، محاولا الضحك بصوت عالي للتعبير عن الشكر والامتنان، لكن كانت دعوة ذكية لمغادرة المكان…. نجحت الخطة!! قال أحدهم يجب ان نذهب الى المشتل من ثم ننزل الوادي.. وافق الجميع على الأمر دون تردد، زاد ذلك كم حماستي فوافقت ايضا.
هناك انواع من الأشجار لم اشاهدها في حياتي فقررت ان أطوف بالمكان! يا لجمال المنظر، يمتدد المشتل مساحة داخل الروح العاشقة للطبيعة، بعد المدخل الرئيسي مساحة لايقاف العربات، ومن الناحية اليسري غرفة للحرس تلك الروضة، تبادلت الحديث معه، كان متحفظ بعض الشئ ربما لما حدث في تلك المنطقة الذي أفقد الناس الثقة بينهم، زكرت له: اسماء بعض اقاربي الذين عملوا بذاك المكان.. فرح الحارس ونهض وجدد السلام بطريقة غمرها الود ثم بدأ في زكر فضائل أحد اقربائي، فقلت له ان لم يكن لديك مانع عرفني بهذا المكان!! ارتدى حزائه وحمل عصا صغير بيده اليمني أشار بها عينا ان نذهب من هنا: كانت أشجار “القولد مور” “الكاسيا” “الانجل” تصطف في طابور شرف ملكي لاستقبالنا، ترفرف اغصناها بفرح وتبتسم الأزهار الصغيرة، بدأ الحارس تعريفي بانواع وفصائل المانجو “الهندية” “البلدية” ومواسم انتاجها، نلقي التحية بين الحين والاخر لمجموعة من المراهقين، الطلاب والاسر التي اتخذت من “المشتل” متنفس طبيعي لقضاء الامسيات الرائعة، يدعونا البعض منهم لتناول القهوة، فيعتزر الحارس بالنيابة عنا ويقول لهم لدي ضيف مهم يود التعرف علي المكان… احسست بفخر الحارس وهو يلقي علي محاضرات في علم البساتين وانساب الاشجار واهميتها، في بعض اللحظات يقف متحسرا لما آلت اليه حالة المكان! حدثني عن اول شجرة تم غرسها، وان تلك الشجرة تكبر هذه بعام، فقلت لنفسي ان هذا الحارس هو الاب الشرعي لتلك الاشجار.. كانت الجولة لحوالي ساعتان عرفني باجزاء المكان وغمرته الحسرة، اما انا تعلمت الكثير استمتعت بالمساحة الخضراء التي انعدمت في كثير من مدن السودان.. فقلت له لما انت متحسر؟ فقال يا ابني هذا المكان كان يعج بالطاقة والحيوية، حركة الموظفون لا تنقطع، اتعلم يا ابني معظم الفصائل من “الليمون” “البرتقال” “القريب” “يوسفي” “الجوافة” وغيرها من الاشجار المثمرة تم انتاجها بهذا المشتل ووزعت علي بعض المناطق والمدن، حتي الاشجار الغابية والاحزمة الخضراء كانت تعد هنا ثم توزع… صمت الحارس لدقائق، كان رائسه يتحرك لا اراديا، ثم رفع حاجبه الاشيب فسالت دموعه..همس “بالاستغفار” ثم قال “ام جركم ما بتاكل خريفين” نحن اكلنا خريفنا لكن انتم خريفكم “يابس” قلت له ادعو لنا ثم ودعت حاس الغابة البستانية.
التحقت بصدقائي الذين لم يفقدوني طوال المدي التي غبت عنهم، انهم يلعبون “الكتشينة” ويحتسون القهوة، قال أحدهم اين كنت، فقلت له هل بينكم أحد درس كلية الزراعة؟ فقال لماذا السؤال؟ فقلت لاحظت خلال تجوالي بهذه المدينة هناك عدد من رياض الاطفال والمدارس الاساسية وان حارس هذا المشتل غني بالمعلومات وتلقي تعليم غير نظامي ” درس الخلوه” ثم التحق بالمدرس وأكمل المرحلة الثانوية وهو يعمل بهذا المكان، انه يعلم الاسماء العلمية لاشجار هذا المشتل، ثم علمت ان هناك مجموعة صغيرة من الموظفين تعمل لاحياء هذا المشروع و و و. فقال لي يا عباس ماذا تريد ان تقول؟ فقلت لهم: نعد منهج تعليمي للاطفال.. ثم صمت قليلا، نتصل بوازارة التعليم، وكلية الزراعة جامعة زالنجي، ادارة مشروع جبل مرة وغيرهم… نتصل بالتشكيلين والتربوين نبسط مادة المنهج وندعمها بالرسومات، ثم يصدر قرار علي جميع المدارس الاساسية ورياض الاطفال اخذ التلاميذ في زيارات دورية للمشتل حتي يتعرف الاطفال علي اهمية الاشجار، انواعها وفصائلها، بجانب المرح والتعرف علي الطبيعة، وافق بعض من الاصدقاء وقالوا فكرة عظيمة، فقلت: يتم تدريب المعلمون وبعض المتطوعون علي المنهج علي اساس انه برنامج بعد اليوم الدراسي، حتي لا يتعارض مع السياسات التعليمية. لكن مع نفسي كنت اقول نحن خريفنا “يابس” كما قال “حارس المشتل” لكن نعمل لخريف باكر.
بدأت الشمس في المغيب غادرنا المشتل وجلسنا بالقرب من “وادي اريبو” تحت الكبري الذي شيد بايدي المانية في مطلع ثماننيات القرن الماضي، نتنفس الهواء الطبيعي لا توجد ملوثات سوي رائحة الشواء والبصل “المكشن” التي تحملها الريح الخريفية، حبيبات المطر تغازل وجوه الجميع، ثم تكونت السحب فهربت الجموع المتنشر علي الرمال، ازذحم الكبري الصغير بالمركبات، الركشات والارجل تشبح في خطوات متسارعة قبل ان تدركها غضبة الطبيعة، فقال احد الاصدقاء يجب ان نغادر المكان ان الامطار سوف تسقط قريبا قبل ان نصل منازلنا لقد صدقت نبوءته، فقلت زالنجي ارض المطر التي لا تتوقف.