خلفت حادثة اغتيال العمدة جبريل أحمد، وزوجته الأسبوع الماضي ببلدة (دقريس) بولاية جنوب دارفور التي عادوا إليها من معسكر “كلمة” للنازحين، تساؤلات ولغط كثيف حول مدى امكانية نجاح المشروع مع وجود مسلحين يقفون سداً منيعاً بين النازحين وأراضيهم التي ينون العودة إليها بعد سنوات من الهجران بسبب الحرب.
العودة الطوعية صارت ملفاً يكتنفه التعقيد بقدر قيمة الأرض لدى المجموعات السكانية بدارفور، الأمر الذي يضع عودة النازحين امام تحديات كبيرة اعترفت بها حكومة الولاية التي ظلت تحث النازحين على العودة لقراهم الأصلية، وتتعهد بتوفير مقومات استقرارهم بقراهم، وعلى رأس هذه المقومات الأمن والطمأنينة.
وأقر نائب والي جنوب دارفور، طه عبدالله، في لقائه وفد السفارة الأمريكية بالخرطوم خلال زيارته للولاية السبت بأن العودة الطوعية تواجه بتحديات كبيرة.
وأشار إلى أنه أبلغ الوفد بأن هناك مجموعات سكانية مناوئة لعودة النازحين إلى قراهم، رغم أن السواد الأعظم من النازحين لهم الرغبة في العودة لمناطقهم.
وذكر أن المساعي لإجهاض مشروع العودة الطوعية دفع حكومة الولاية إلى تشكيل لجان لتسليم كل عائد منزله ومزرعته، وتابع “اتضح لنا من خلال اللقاء أن الوفد الامريكي على علم بأن هناك مقاومة ضد عودة النازحين إلى قراهم، لكننا أطلعناهم بترتيباتنا لحماية العائدين وقراهم وبعد عودة اعداد من النازحين إلى قراهم وقعت عدد من الأحداث”.
ورصدت (دارفور24) عدداً من الهجمات على قرى العودة الطوعية خلال العام الجاري اودت بحياة ما لا يقل عن (20) شخص وجرح نحو (30) آخرين.
وفي فبراير الماضي اعتدت مجموعة مسلحة على العائدين الى قرية (تُربا) بمحلية الوحدة (83) كيلو متر شمال عاصمة جنوب دارفور نيالا بعد أقل من شهر من عودتهم للبلدة وأسفر الهجوم عن مقتل (شخصين) من العائدين.
وفي يونيو (رمضان) الماضي هاجم مسلحون قرية (حجير تونو) بعد ان عاد إليها سكانها من معسكرات النزوح، وأدى الهجوم الى مقتل (9) أشخاص في الحال وأصيب (8) آخرين بينهم إصابات خطيرة.
كما نفذ مسلحون في يونيو الماضي هجوما مسلحاً على مزارعين بقرية “ابدوس” التابعة لمحلية قريضة في جنوب مدينة نيالا حاضرة الولاية مما اودى بحياة اربعة أشخاص وإصابة آخرين.
فيما اعتدى مسلحون آخرين على العائدين الى منطقة “ابو جابرة” بمحلية السلام أسفر عن مقتل ثلاثة مواطنين وإصابة آخرين.
وفي ذات الشهر شنت مجموعة من (الزغاوة ام كملتي) المقيمين هجوماً بالأسلحة البيضاء على العائدين إلى قرية (دشيشة) ما ادى الى جرح ما لا يقل عن (17) من الطرفين.
وبالرغم من تعدد الهجمات ضد النازحين العائدين إلى قراهم إلا أن سلطات الولاية لم تعلن القبض على اي من المتورطين في الهجمات على قرى العودة الطوعية.
ووصف الكاتب الصحفي والاكاديمي بمركز دراسات السلام بجامعة نيالا، د. النور جابر، عدم ضبط الأجهزة الأمنية لأي من المتورطين في هذه الأحداث بالخيبة.
وأضاف معلقاً على حادثة اغتيال العمدة جبريل “واحدة من الخيبات والمخازي والثقوب على الثوب الأبيض أن تنجو قطط دقريس”، وتظفر بإزهاق روح العمدة وزوجه دون رؤيتهم أو القبض عليهم، وحتى بلاغها ربما ضد مجهول”.
وتابع “ما يدمي القلوب أن تفلت تلك “القطط المجرمة” وهى تقتل العمدة “جبريل وزوجه” على بعد كيلو مترات من حاضرة الولاية مكان تجمع وتمركز الحكومة والقوات وما زال البلاغ ضد مجهول فى طريقه أن يتحرك الى مشتبه فيهم”.
وذكر أن مقتل العمدة جبريل لا يهزم مشروع العودة الطوعية التى إنتظمت الولاية، ولا يثني عزيمة العائدين، والطريق ليس مفروشاً بالورود تحت أقدام العائدين لقراهم.
وأردف “مثل هذه المعوقات تصنع لديهم روح التحدي للعودة الطوعية والتلقائية، ولكنها تضع القائمين عليها من جهات الاختصاص فى تحديات كبيرة وتأريخية لتأمين قرى العودة الطوعية والقضاء تمامٱ على كل مجرم يعترض طريق العائدين”.
لكن النور جابر أكد أن العودة الطوعية لا تتم وتكتمل وما زال هناك سلاح فى يد مجرم خارج عن القانون، مناشداً نائب الرئيس حسبو محمد عبد الرحمن أن يكمل المشوار وتبدأ مرحلة النزع والجمع القسري حتى لا تزهق أرواح عائدة أو عابرة وبيد المجرمين سلاح.
وقال مخاطباً حسبو الممسك بملف “جمع السلاح” “إن أى روح تزهق وجسد يجرح بهذا السلاح، وأنت المسؤول عن جمعه، فإنه فى عنقك”.
في الأثناء يقول الأمين العام لمعسكر كلمة، صالح عيسى محمد، لـ (دارفور24) إن الوقت الراهن غير مناسب لعودة النازحين الى قراهم الاصلية.
وأضاف “لا توجد حاجة اسمها عودة طوعية لكن الظروف المعيشية في معسكرات النزوح أجبرت النازحين على مغادرة المعسكرات بعد تقليص المساعدات الإنسانية والغذائية”.
وأوضح أن معسكر كلمة- مثلاً- به (163) ألف نازح تم تخفيض عدد الذين يتلقون المساعدات إلى (39) ألف نازح فقط، وذكر أن الوضع الآن صار في المعسكرات او القرى بين الموت والحياة ما جعل البعض يعودون لقراهم رغم المهددات والتحديات.
وأضاف “النازحون في الحالتين محاصرين بالمخاطر لذلك لا يمكن البقاء في مكان واحد وفضلوا العودة لقراهم رغم المهددات”.
ونبه صالح الى أن المجتمع الدولي يدعو الى توفيق أوضاع النازحين بدارفور وفق حزمة من الخيارات، لكن الحكومة مصرة على خيار العودة الطوعية، بينما خيار النازحين يتمثل في توفير المساعدات الانسانية وان تعمل الحكومة على توفير الأمن والاستقرار.
واستبشر النازحون بقرار جمع السلاح الذي أعلنته وبدأت تنفيذه بدارفور مطلع العام الحالي، وقال الامين العام للنازحين إن النازحين اعتقدوا ان القرار سيكون خطوة مباركة لحل قضايا النزوح.
وتابع “لكن للأسف الحكومة جمعت السلاح من اناس بسيطين يمتلكون السلاح لأجل توفير الحماية لانفسهم وبهائمهم ولم تجمعه من الذين يشكلون المهدد الأساسي للأمن والاستقرار وحياة الآخرين”.
وقطع بأن أحداث القتل التي وقعت في قرى العودة الطوعية لم تكن أحداثاً عشوائية، وألمح إلى أنها جرائم منظمة ومخطط لها من قبل النظام، مردفاً “دا شغل منظم وبتعليمات ما شغل جنجويد عشوائي”.
من جهته قال مفوض اراضي دارفور، محمد صالح منقو، لـ (دارفور24) إن العودة الطوعية بدارفور لا تكتمل إلا عبر ثلاثة محاور تتمثل في ـ توفير الأمن بالقرى، وتحقيق المصالحة بين العائدين والمقيمين، بالاضافة الى معالجة مشكلة الأرض”.
وذكر منقو أن مشكلة الأرض أضحت تشكل مهدداً كبيراً للسلم الاجتماعي بدارفور، بحسبان ان الأراضي السكنية امتدت على الزراعية، والزراعة تغولت على مساحات الرعي والمسارات.
ونبه إلى أن المفوضية تعكف هذه الأيام على اعداد قانون لتنظيم الاستفادة من الأراضي بدارفور، مضيفاً “من خلال هذا القانون ستضع المفوضية وشركائها من وكالات الأمم المتحدة الحلول للمشكلة التي تنشأ بين السكان بسبب الأراضي”.
وأوضح مفوض اراضي دارفور أنهم يسعون للتوفيق بين رغبات المقيمين والعائدين من خلال حملات توعوية تنفذها المفوضية عبر وسائل الإعلام بدارفور.
بينما يرى الاكاديمي المحاضر بمركز دراسات السلام بجامعة نيالا، د. آدم كبس، ان الاحداث التي وقعت بقرى العودة الطوعية وآخرها اغتيال العمدة جبريل تحتاج إلى إعادة سياق في الخطط والبرامج.
وقال إن أي عودة طواعية تسبقها زيارات ميدانية من خبراء السلم الاجتماعي والدراسات الاستراتيجية والنفسية والقانون وعلم الاجتماع والعلاقات الدولية والإعلام عبر الورش والسمنارات لتقريب وجهات النظر بين المقيمين والعائدين.
وتابع “وذلك لمعرفة مواقع الخلل والضعف بغرض توفير متطلبات الأمن والسلامة والمياة والصحة والماوي والغذاء ومن ثم رفعها لصناع القرار”.
وذكر أن العودة الطوعية تحتاج إلى خطاب متجدد ليساهم بفاعلية في مخاطبة وتعميق الحوار بين العائدين أنفسهم، بأخذ كل ما هو جديد لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات الحادثة والمستجدات المستمرة وما يحيط بها من تحديات.
وأشار كبس إلى أن العودة الطوعية باعتبارها الحل الأمثل لقضايا النزوح تتطلب التزاماً كاملاً في إعادة إدماج العائدين والمقيمين.
كما تتطلب دعماً من المجتمع المحلي لتمكين أولئك الذين يتخذون قرار العودة الطوعية إلي ديارهم وإعادة بناء حياتهم، بحشد الدعم وتوفير البيئة القانونية والأمنية وتهيئة الظروف المعيشية.
فضلاً عن ذلك تحتاج العودة الطوعية الى خطاب ثقافي ونشر الوعي في مواقعها لجهة أن الخطاب الثقافي يؤثر ثاثيراً مهما في تشكيل وتوجيه وأفكار وسلوكيات ومشاعر العائدين والمقيمين في القرى.