مقدمة:
نالت الأزمات الإنسانية في السودان النصيب الأكبر من الأزمات الإنسانية في أفريقيا، فقد وصفت الحرب الأهلية في جنوب السودان، والتي أدت لاحقًا إلى انفصال الجنوب، بأنها أطول حرب في أفريقيا، وبالرغم من أن الانفصال الذي أوقف الحرب إلا أن تداعياتها لا تزال قائمة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، هذه الحروب فاقمت الوضع الإنساني الهش في المنطقتين. أما الوضع في دارفور فوصف بأنه أسوأ كارثة إنسانية في العالم في وقتها، بل ذهب البعض بعيدًا ليصف ما حدث في دارفور بأنه إبادة جماعية.[1]
إن ما حدث ويحدث في دارفور أدّى إلى وضع إنساني بالغ التعقيد يتمثل في دمار البنية الاقتصادية، وبالتالي أدت بدورها إلى تدهور الوضع المعيشي بصورة غير مسبوقة، وكما أدت إلى تآكل البنية الاجتماعية وتهتك النسيج الاجتماعي بصورة يصعب معها رتقه حتى بعد نهاية الأزمة، وغير أن الوضع الإنساني المعقد يتجلى في نزوح الملايين من سكان دارفور للمدن الكبيرة طلبًا للحماية من الهجمات، وكذلك لجوء مئات الآلاف منهم إلى دول الجوار والمنافي حول العالم، وتشير تقديرات السلطة الإقليميةلدارفور للعام 2013 بأن عدد النازحين بدارفور يبلغ مليون وسبعمائة، بينما هناك 280 ألف لاجئ في تشاد فقط ناهيك عن باقي اللاجئين في بقية أنحاء العالم. إن الوضع الإنساني في تفاقمه نتيجة لغياب الأمن في الإقليم الذي أدى بدوره إلى بروز ظواهر سالبة تمثلت في تفشي النهب المسلح، وظهور جماعات تفرض إتاوات ومكوس على المواطنين الذين يدفعونها صاغرين، وبسبب تدهور الوضع الأمني كثيرًا ما تعذرت المنظمات الطوعية الوصول إلى المناطق البعيدة وتقديم العون للمحتاجين، وهذا عوضًا عن هذه المنظمات نفسها صارت هدفًا سهلًا لقطاع الطرق، بالإضافة إلى الإجراءات الحكومية المعقدة التي أضعفت من فاعليتها في التعامل مع الوضع الإنساني في دارفور.[2]
سوف أحاول في هذه الورقة أن أركز على أوضاع النازحين واللاجئين في المعسكرات، خاصة أوضاع النساء والأطفال، والسؤال:
كيف يتكيف النازحون اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا في بيئة اجتماعية جديدة (المعسكرات)؟وإلى أي مدًى تؤثر ظروف الحياة الجديدة (المعسكرات) على النسيج الاجتماعي للنازحين؟وما هي التحديات التي تواجه الفاعلين في إعادة النازحين إلى قراهم؟
وتحاول هذه الورقة الإجابة عن هذه التساؤلات، وقراءة نقدية لتحليل الوضع الإنساني كصيرورة من خلال نظريات علم الاجتماع
النزوح واللجوء كقضايا إنسانية:
إن قضايا النزوح واللجوء أصبحت تشكل معضلة ليس فقط للدول التي تنشأ فيها بل للمجتمع الدولي كله، حيث أن هذه القضايا لم تعد محلية البته، وقد اكتسبت قضية النزوح واللجوء أبعادًا دولية في الحرب العالمية الثانية عندما تحول الملايين في أوربا إلى نازحين ولاجئين، وقتها كانت قضية اللاجئين عسكرية أكثر من كونها إنسانية، وتم استخدام المعسكرات مأوًى أو ملجأ للمتشردين، وتطورت النظرة للاجئين حتى أصبحت قضية إنسانية حيث تم في عام 1951 المصادقة على اتفاقية جنيف التي تخص في الأساس حماية اللاجئين، وكان الفهم السائد بأن مشكلة اللاجئين تنتهي مع انتهاء الحرب؛ إلا أنها تطورت ولم تعد مشكلة أوربية فقد ظهرت مشاكل للاجئين في مناطق أخرى من العالم وخاصة أفريقيا نتيجة للصراعات الداخلية بعد الأعوام التي تلت الاستقلال، وأدت هذه النزاعات إلى نزوح الملايين ولجوء أخرين إلى دول أخرى. وقد عانى السودان ولا يزال من مشكلتي النزوح واللجوء؛ فهو مصدر للاجئين وفي نفس الوقت يستقبل آلاف من دول الجوار (أثيوبيا، يوغندا، الكنغو، إريتريا وتشاد) هذا فضلًا عن ملايين النازحين من مواطنيه، وقد أضافت أزمة دارفور تحديًا آخر يضاف إلى رصيد السودان الثري من التحديات، ومن أبرزها إعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم أو توطينهم.[3]
لعبت الولايات المتحدة دورًا كبيرًا في تحول ملف دارفور إلى مجلس الأمن بحجة فشل الاتحاد الإفريقي، وصفت الولايات المتحدة أن الأوضاع في دارفور تهدد السلم والأمني الدوليين، وبدأت قضية دارفور تعرف طريقها إلى مجلس الأمن في 11يونيو 2004 عندما عقد مجلس الأمن بناء على طلب من الولايات المتحدة في جلسته رقم (4988) وأصدر القرار رقم1547 حيث طلب المجلس من الطرفين (الحكومة ومتمردي دارفور) الالتزام بوقف إطلاق النار، وحيث أدان المجلس جميع أعمال العنف من جميع الأطراف خاصة الجنجويد. وكما قرر المجلس بأن الوضع في دارفور يهدد الأمن والسلم الدوليين.[4]
لقد كان المجتمع الدولي أكثر حساسية تجاه الانتهاكات التي تؤدي إلى تدهور الأوضاع الإنساني، ويجب أن نشير هنا إلى أن غالبية قرارات الأمم المتحدة حول السودان هي في الأساس حول التعامل مع الوضع الإنساني، والبعض من هذه القرارات جاءت تحت البند السابع لحماية المدنيين. بغض النظر عما إذا كان المجتمع الدولي جادًّا في حماية المدنيين أم لا فإن مجرد إصدار القرارات الأممية حول هذا الامر يشير إلى تحول كبير حول مفهوم الأوضاع الإنسانية وحماية المدنيين.[5]
تُعد أوضاع النازحين في دارفور هي الأسوأ على مستوى العالم في تلك الفترة كما تقول الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وأن السودان يحتل المركز الأول في إفريقيًا وعالميًا من عدد النازحين داخليًا، ويليه (كولومبيا والعراق)؛ إذ يتجاوز عددهم السبعة ملايين سوداني – أي ما يعادل أكثر من ربع سكان السودان الذي لا يتجاوز تعداده الثلاثين مليون نسمة عقب الانفصال الجنوب. ويشير البعض إلى أن نصف هذا العدد من النازحين هم من دارفور التي بلغ تعداد النازحين فيها عام 2014 حوالي 2.7مليون يعتمدون بشكل كامل على برنامج الغذاء العالمي وعدد من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في تلقي الغذاء والمياه والعلاج وبعض الخدمات التعليمية، وفي عام 2013 نشرت الأمم المتحدة تقريرًا أوضح معاناة نازحي دارفور وأشار إلى ضرورة وجود مراجعة استراتيجية للأوضاع فيها بعد عشرة سنوات من النزاع، وفي عدم تمكن النازحين من العودة إلى قراهم من المعسكرات ففي كل يوم جديد تظهر أرقام جديدة بسبب استمرار المأساة منذ اندلاع الحرب عام 2003وحتى الآن. حاليًا تقدم الأمم المتحدة المساعدات لأكثر من أربعة ونصف مليون من المحتاجين للمساعدات الإنسانية في السودان منهم ثلاثة ونصف في دارفور؛ إذ يعيش حوالينصفهم في المعسكرات. لا تمتلك الأمم المتحدة ولا المنظمات الإنسانية ولا الحكومة السودانية حصرًا واضحًا لعدد معسكرات النازحين بدارفور؛ إذ يرى بعض العاملين السودانيين في منظمات الغوث الإنساني بأن عدد المعسكرات في دارفور يزيد عن ثلاثين معسكرة منتشرة في كافة أنحاء دارفور، فعلى سبيل المثال في ولاية شمال دارفور وحدها خمسة معسكرات أكبرها (أبوشوك) حيث يعيش فيه نحو (50.000) ألف نازح، و(السلام) (49.000) نازح، و(زمزم) (39.000) نازح، و(كساب) (26.000)، و(فتي برنو) (24.000).[6]
إن وجود المعسكرات خلق تغييرًا كبيرًا وقسريًا على الخارطة الديمغرافية في دارفور، وتحولات في البنية الاجتماعية والاقتصادية في دارفور؛ إذ أن المزارعين الذين نزحوا لا يستطيعون العودة للعمل في حواكيرهم جمع حاكورة وتعني(قطاع من الأرض) نتيجة لانعدام الأمن في المناطق الريفية الزراعية خارج المدن، والحياة في معسكرات النازحين امتدت لسنوات طويلة عند بعض الأسر، حيث وُلد البعض فيها وأصبحوا صبايا وصبيات ولا يدورن شيئًا في الضفة الأخرى خارج أسوار المعسكرات، مما يؤثر في تنشئتهم الاجتماعية، وأن بقاء جماعات بأعداد كبيرة في المعسكرات مع الاعتماد على الإعانات يقفد الأجيال الجديدة الثقافة المرتبطة بالأرض والزراعة والرعي، بالتالي تتوقف نقل تلك الخبرات إليهم عمليًا، وأن طول بقائهم يتطلب تأهيلًا جديدًا تتناسب مع الوضع الجديد، بالتالي تكون التكلفة الاجتماعية والاقتصادية كبيرة.
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للنازحين
لا شك أن الصراع في دارفور قد أصاب النسيج الاجتماعي (البنية الاجتماعية) في مقتل، وليس هنالك دليل على الدمار الذي لحق بهذا النسيج الاجتماعي أكثر من وجود ما يفوق المليون نازح ولأجي من سكان إقليم دارفور. إن ما أصاب النسيج الاجتماعي بدارفور يشكل تحديًا على التكيف مع هذه الظروف في البيئة الجديدة (المعسكرات)
إن بنية المجتمع المحلي بدارفور يتكون من مجموعات قبلية وعشائرية تربط بينها أواصر القربى والدم والمصالح المشترك عبر السنين، ولم يكن هنالك في الماضي ما يعكّر صفو العلاقات الاجتماعية بين القبائل سوي المشاكل التقليدية التي كانت تعالج بواسطة الإدارات الأهلية عن طريق (الجودية) ومجالس الصلح، ولكن ما تفاقم المشاكل وامتداد الحرب لتشمل ذوي القربى، تآكلت مقدرة الإدارات الأهلية، وفقدت مكونات المجتمع المحلي الثقة فيما بينها، والدليل على ذلك الصراعات التي حدثت في بعض معسكرات النازحين (معسكر كَلْمَهبمدينة نيالا على سبيل المثال)، وبالتالي لم تعد أساليب الجودية وفض المنازعات تعمل كما كانت في السابق.[7]
الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان، فحياة الجماعة تستمر عندما يلتقي زوج وزوجة لتأسيس حياة أسرية خاصة يتولى من خلالها الأبوان إنجاب الأطفال، وتنشئتهم وتأمين الاستقرار النفسي أي تهيئهم كي يأخذوا دورهم في الحياة. ولا تقتصر مهمة الأسرة على تنشئة الأولاد وهم صغار، بل تحرص على متابعتهم في مراحل العمر اللاحقة في بعض المجتمعات، ويرى علماء النفس الاجتماعي بأن طرق التعامل في الأسرة لها أثر بيّن على شخصية أفرادها داخل المنزل وخارجه، وربما طوال حياتهم في مختلف شؤون الحياة، وبالتالي أن عدم التكيف داخل الأسرة قد يكون سببًا لعدم التكيف خارجها.[8]
إن الأسرة في المجتمع السوداني تعتبر مؤسسة اجتماعية مهمة، بالإضافة إلى وظيفتها التكاثرية وتنشئة الأطفال وتوفر الرعاية والحماية لكبار السن وقد فقدت الأسرة الكثير في دارفور؛ فبعض الأفراد قضوا في الحرب، والبعض الآخر تفرقت بهم السبل حيث انتهى الأمر ببعض افراد الأسرة إلى المعسكرات، مما خلق تكيفًا سلبيًّاللنازحين والذيتمثل في الصدمة النفسية القوية التي تعرض لها النازحون جراء أهوال الحرب، وأن بعض الناس فقدوا أقاربهم وهنالك من قتل أهله أمام عينيه، فإن هذه التجارب تترسخ في الذاكرة وتترك آثارًا يصعب التخلص منها نهائيًا. وقد اهتز النظام الاجتماعي بسبب فقدان سبل كسب العيش وانعدام مصادر الدخل والصدمات النفسية والتفكك الأسري
إن الصراع في دارفور أدّى إلى تدمير البنية الاجتماعية وسبل الاقتصاد المعيشي للسكان، فكل الذين نزحوا أو لجأوا إنما فروا بجلدهم بعد أن فقدوا ممتلكاتهم، وبما أن الرجال والنساء كانوا يشاركون بفاعلية في الاقتصاد التقليدي قبل الحرب فإن الخراب الذي أصاب هذا القطاع جعل من الرجال والنساء عالة على المنظمات الطوعية وبالتالي أثّر هذا على قيمة الاجتماعية للفرد في المجتمع، إن البناء الاقتصادي لسكان دارفور يقوم على الرعي والزراعةوهي المصادر الأساسية لكسب العيش، فإن الحرب أدت إلى تغير البنيه الاجتماعية والاقتصادية لسكان دارفور، وعليه أصبح العمل مقابل الأجر هو الخيار الوحيد لكسب الرزق بالنسبة للنازحين. وقد احتل العمل في كمائن الطوب والبناء الصدارةمنذ عام 2003م وذلك بسبب كثرة المنظمات العاملة في مجال العون الإنساني والتنموي وحاجتها إلى مباني لممارسة أنشطتها، وكما نجد كثيرًا من النازحين يعملون في الاعمال الهامشية مثل بيع الحطب والصناعات الحرفية وغيرها من الأعمال الأخرى، كما أن الحياة في المدينة وتدني الدخل،وانعدام الإنتاج الريفي من المحاصيل والخضروات والفاكهة وارتفاع تكلفة الترحيل كان له أثرًا سلبيًّا على النازحين في المعسكرات.[9] ويرى عالم الاجتماع دور كهايمأن أهمية العمل ليس فقط ما يقدمه من فائدة مادية تعين على متطلبات الحياة وإنما مؤشر هام لبلورة الشخصية ورسم الطموحات المستقبلية وتعزيز التنافس، وبالتالي فإن الاعمال الهامشية تؤثر على عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومما تؤثر على مستقبل سكان دارفور.[10]أن التكيف الاجتماعي سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المعسكرات النازحين نتيجة للتفاعل الاجتماعي كما يرى المدرسة التفاعلية في علم الاجتماع أن البشر يبتكرون أفعالًا مختلفة وخلّاقة يسهمون بها في إعادة تشكيل واقعهم، ورغم أن ثمة مؤثرات وعوامل أخرى تفرض نفسها أو تحدد الجوانب الرئيسية في السلوك الاجتماعي مثل الأدوار والمعايير والتوقعات المشتركة، فإن الواقع ليس أمرًا ثابتًا وساكنًا وناجزًا ومفروغًا منه، بل إنه يُخلق ويتشكل ويعاد تشكيله من خلال التفاعلات البشرية، وبالتالي من خلال التفاعل الاجتماعي نجد هناك ظواهر سلبية وإيجابية من خلال التفاعل الاجتماعي في الحياة اليومية (الأنشطة اليومية الروتينية)[11]
هناك تناقضات في نظريات علم الاجتماع حول تفسير الظواهر الاجتماعية مثل الأوضاع الإنسانية في ظل الحرب، فعلى سبيل المثال ترى النظرية الوظيفية بأن المجتمع نظام مُعقَّد تعمل شتّى أجزائه سَويًا لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مُكوّناته وأي خلل في مكونات النظام يؤدي إلى خلل في المجتمع، أما النظرية الصراعية ترى بأن أهمية الخِلاف والنزاع داخل المجتمع حتى لو يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني في المجتمع، وبالتالي هم يُركّزون بذلك على قضايا السلطة والتفاوت والنضال.
وضع النساء والأطفال في دارفور
تعتبر المرأة في دارفور الوحدة الاقتصادية الأساسية؛ ففي المجتمعات الرعوية تقوم النساء بأنشطة إنتاجية مختلفة تشمل إنتاج الألبان، وصناعة السمن وغيرها من منتجات الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى رعي قطعان صغيرة من الماشية بالقرب من القرى في فترة استقرار السكان. أما في المجتمعات الزراعية فتمارس النساء الزراعة كنشاط اقتصادي أساسي مع مساعدة من الأزواج والأبناء. وكما تقوم النساء بأعباء إنتاجية وإنجابية ثقيلة متمثلة في عملية بناء المنازل وتأمين استمرارية ضمان الاقتصاد المحلي المتمثل في إنتاج محاصيل متنوعة للاستهلاك المحلي
إذ ترى المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع أن المجتمع نظام معقد يعمل بشتى أجزائه سويًا التحقيق والاستقرار والتضامن بين مكوناته، وبالتالي فإن أي خلل في المجتمع يؤدي إلى عدم الاستقرار والتوازن في المجتمع، وكما تُشدّد المدرسة الوظيفية على أهمية الإجماع الأخلاقي في الحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع، فإن الحرب في دارفور أدت إلى فقدان النظام الأخلاقي وخلق نوع من عدم الاستقرار والتوازن في المجتمع السوداني، وخاصة فيما يتعلق بانتهاك حقوق المرأة والأطفال في ظل الحرب.[12]
أدّى اندلاع الحرب في دارفور عام 2003م لنزوح حوالي مليوني شخص من قراهم إلى المعسكرات بأطراف المدن الكبرى في دارفور، وقد اهتز النظام الاجتماعي مع فقدان سبل كسب العيش وانعدام مصادر الدخل، والصدمات النفسية، والتفكك الأسري، وكانت النساء والأطفال أكثر الفئات تضررًا بسبب تفشى العنف ضد المرأة، وبالإضافة لمعاناة الأطفال وفقدان حقوقهم في الحماية والرعاية والاحتياجات الإنسانية الضرورية، وبسبب غياب العائل الأول في الاسرة (الأب) في معظم الأحيان تضاعفت الأعباء على المرأة في رعاية الأسرة والعناية بالأطفال، وكما تؤثر النزاعات على علاقات وأدوار النوع الاجتماعي، وبالتالي تضعف من قدرة النساء على الوصول إلى الموارد والتحكم فيها، وكذلك تعيق إمكانية الوصول إلى الخدمات الصحيةوالتعليم،ومياه شرب نقية، وضف على ذلك زيادة معاناة النساء من حيث التعرض للانتهاكات الجنسية مثل الاغتصاب وخطر الإصابة بالإيدز والتعقيدات أثناء الحمل.[13]
كان النساء والأطفال أكثر المتضررين من أثار الحرب فبرزت ظاهرة التسول وسط الأطفال في المدن، وزادت معاناة النساء وبالأخص الأرامل بسبب محدودية فرص العيش الاقتصادي والاجتماعي في المدن، وبالرغم من الانتهاكات والاضطرابات النفسية والأزمات الاجتماعية والأوضاع اللا إنسانية التي عانت منها النساء أثناء وبعد الحرب إلا أن النساء بدأن المكافحة من أجل البقاء وتوفير سبل العيش لأفراد الأسرة بدون الاعتماد على الزراعة، وعليه أصبح العمل مقابل الأجر الخيار الوحيد لكسب الرزق بالنسبة للنازحين مما خلق نوعًا من التكيف الإيجابي للنساء في المعسكرات
إن تدهور البيئة في المعسكرات يؤدي إلى تفشي الكثير من الأمراض وتفاقم وفيات الأطفال والأمهات، فالمعسكرات تفتقر إلى المراحيض والحمامات، مما يعرض النساء للإصابة بأمراض عمر الإنجاب (التهاب المسالك البولية والتهابات الحوض) بسبب الافتقار إلى الممارسات الصحية المرتبطة بالنظافة الشخصية، وأن النساء في المعسكرات يعانين من ضعف في الصحة الإنجابية وعدم توفر خدمات الرعاية الصحية أثناء الحمل والولادة وما بعد الولادة، بالإضافة إلى أن النساء المرضعات يعانين من صعوبة في الرضاعة بسبب سوء التغذية واضطرابات الحالات النفسية. تقول منظمة اليونيسيف عن أوضاع النساء في المعسكرات عام 2005 إن الخدمات المقدمة غير كافية لمجابهة احتياجات النساء ناهيك عن طول زمن الانتظار بسبب كثرة النازحين وقلة المراكز المقدمة للخدمة، أضف إلى ذلك الأدوية المتوفرة تساهم فقط في تسكين الألم ولكنها غير فاعلة في القضاء على المرض!.[14]
بالرغم من كثرة الصراعات القبلية في دارفور وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية السلبية على المجتمع فإن العنف ضد المرأة لم يؤثر كما هو الحال في الصراع الأخير عام 2003، حيث أشارت منظمة العفو الدولية إلى أن الاغتصاب أصبح جزءًا من الحياة اليومية للفتيات والنساء في عام 2004، ولم تنجُ حتى الفتيات الصغيرات ممن هن في عمر الثامنة من الاغتصاب، وقد أكدت دراسة ليونيسيف في عام 2005 أن المعسكرات غير آمنه وأن النساء مازلن غير آمنات من الاعتداء عليهن، وتتعدد حالات الاغتصابات تارة أثناء الهجوم على القرى، وتارة في موسم الزراعة حيث تقوم النساء بزراعة الأراضي القريبة من تلك المعسكرات أو العمل فيها بالأجرة، وأحيانا أثناء البحث عن الماء أو حطب (الوقود)، فإن العنف يحطم الضحايا نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ويحط من قدرها أمام المجتمع..[15]
دور الفاعلين
إن مساهمة المجتمع الدولي في حل مشكلتي النازحين واللجوء أمر لا بدّ منه، فأزمة دارفور تم تداولها بصدور القرار الأممية المتتالية حول الأزمة، ورغم أهمية المجتمع الدولي في إعادة الإعمار يجب ألا نذهب بعيدًا في التعويل عليه، هنالك الكثير من مؤتمرات المانحين التي عقدت لتمويل بناء السلام في السودان وعلى سبيل المثال مؤتمر المانحين الذي نظمته دولة الكويت في عام 2010، ولكن رغم التعهدات المالية المقدرة فإن ما وصل فعليًا بسيط للغاية
تقع على الدولة والحركات المسلحة مسئولية التعامل بجدية وإخلاص حتى يخرج المجتمع في دارفور إلى بر الأمان، وفي هذا الإطار يجب التعامل مع النازحين من زاوية إنسانية بعيدًا عن الاستقطاب السياسي، وطالما أن الدولة ملزمة تجاه مواطنيها فإن عليها الإيفاء بالتزاماتها وخاصة فيما يتعلق بالنازحين واللاجئين. وأن لمنظمات المجتمع المدني دورًا إيجابيًا وفعالًا في ردم الهوة وبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، ولكي يكون دور منظمات المجتمع المدني أكثر فعالية يجب على الدولة توفير الدعم اللازم لها، وكذلك يجب التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة وهذه المنظمات، وكما أن هذه المنظمات تعمل وسط النازحين لتتمكن من تحديد احتياجاتهم وتنفيذ برامج رفع القدرات. ويجب كذلك أن تكون منظمات المجتمع المدني شريكًا اصيلًا في برنامج العودة الطوعية للنازحين، وكذلك الاعتراف بالدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في بناء السلام، وبالإضافة إلى الفاعلين أعلاه فإن الغالبية الصامتة في دارفور وسكان المناطق الحضرية يمكن أن يساهموا في حل قضية العودة الطوعية للنازحين.[16]ولكن هناك كثير من التحديات التي تواجه الفاعلين وخاصة فيما يتعلق بالعودة الطوعية للنازحين ومن ضمن التحديات اجتماعية،وأمنية، واقتصادية، وسياسية وغيرها، والتي تتمثل في أن الإنسان ميال للتكيف مع الأوضاع الجديدة، ولذلك ألا نستبعد إمكانية تفضيل بعض النازحين للبقاء في أماكنهم الحالية (معسكرات)، ولا سيما أن الخدمات التي تقدم لهم على محدوديتها قد تكون أفضل من تلك التي كانوا يحصلون عليها قبل النزوح. وكذلك رتق النسيج الاجتماعي واجتثاث أسباب فقدان الثقة، ولا يتسنى هذا إلا من خلال بسط العدالة وتعويض المتضررين ماديًا ومعنويًا.ولا تكون العودة الطوعية للنازحين إلا بعض استتاب الأمن. ويعتبر الأمن من أهم مرتكزات الاستقرار الاجتماعي والنماء، ويعني أن الجانب الأمني يشكل أكبر التحديات ليس فقط فيما يتعلق بالنازحين، وإنما يشكل تحديًا لمختلف المعالجات التي تصب في حل أزمة دارفور، ولا سيما أن هنالك العديد من التجارب التي تشير إلى عدم نجاح برامج العودة الطوعية سواء كان ذلك للنازحين أو اللاجئين[17]. ولكن بالرغم من الجهود التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني في تقديم الإغاثة وحماية السكان المدنيين، إلا أنهامازالت هنالك أزمات مستمر للنازحين في دارفور نتيجة للوضع الإنساني الهش، بل مستمرة في جميع أنحاء العالم وعلى سبيل المثال العراق وسوريا واليمن وجنوب السودان والصومال وغيرها من المناطق الأخرى في العالم. وعلى الرغم من المحاولات البارعة لمنظمات العمل الإنساني للتقليل من معاناة النازحينوتقديم المساعدات الإنسانية أو الإغاثة لهم، إلا أن هؤلاء النازحين الذين يعيشون داخل المعسكرات لا يمنحون الحقوق مثل الحماية والإغاثة من قبل المفوّضيّة العليا لشؤن اللاجئين التابعة للأمم المتحدة كما تشير اللوائح
الخاتمة
تناولت هذه الورقة الوضع الإنساني في دارفور وركزت بصورة أساسية على أوضاع النازحين في المعسكرات وخاصة وضع النساء والأطفال وبعض التحديات التي تواجه الفاعلين في الإعادة النازحين أو توطينهم.
إن قضية النازحين واللاجئين لم تعد قضية محلية بل أصبحت مشكلة دولية نتيجة لتدفق اللاجئين من الدول التي تنشأ فيها الأزمات الإنسانية إلى دول أخرى أو دول الجوار، وبالتالي أصبحت قضية النازحين واللاجئين قضية إنسانية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدت إلى اتفاقيات عديدة منها اتفاقية جنيف سنة 1951، والتي تخص حماية اللاجئين والنازحين.
إن البنية الاجتماعية في دارفور قبلية تقوم على أساس التضامن بين القبائل، وحتى الصراعات القبلية يتم حلها عن طريق الجودية (الإدارات الأهلية)، إلا أن الحرب الأخيرةفي دارفور أدت إلى تفاقم الوضع الإنساني، وأدت كذلك إلى تغيير كبير في البنية الاجتماعية والاقتصادية في دارفور وبالإضافة إلى الصدمة النفسية القوية التي تعرض لها النازحون أثناء الحرب مما خلق نوعًا من التكيف السلبي لسكان دارفور، خاصة الذين يعيشون في المعسكرات. وأن النساء والأطفال أكثر الفئات تضررًا بسبب انتشار العنف ضد المرأة التي تتمثل في الاعتداء الجنسي والذي بدوره أدى إلى اثارة نفسية للضحايا، وبالإضافة إلى التدهور البيئي في المعسكرات بروز ظاهرة التسول وسط الأطفال في المدن الكبرى.
قد تتغير الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب إلى الأفضل، وقد يسود الأمن دارفور في حال الوصول إلى تسوية تعالج جذور الأزمة بين كل الأطراف، ولكن من الصعب الرجوع بالحالة الاجتماعية إلى الوراء، خاصة للنازحين واللاجئين الذين تعرضوا لتغيرات كثيرة سواء كانت سلبية أو إيجابية، وهذا يعني الحديث عن عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية، أن الوضع الإنساني في دارفور مازال حرجًا، وهناك الكثير من التحديات التي تواجه معالجة الأوضاع الإنسانية وخاصة فيما يتعلق بإعادة النازحين إلى قراهم، مثل التحديات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية وغيرها من التحديات الأخرى. فإن العودة الطوعية للنازحين أو اللاجئين إلى مناطقهم التي نزحوا منها _ولكي يكون هذا الخيار واقعيًا_ يجب أن تتوفر الظروف الملائمة لذلك، مثل استتباب الوضع الأمني، وتوفر الإدارة السياسية والدعم المادي وكذلك موافقه النازحين واللاجئين على العودة. أو توطينهم في الأماكن التي نزح أو لجأ إليها الناس، هذا أحد الخيارات يمكن تطبيقه في حال اختار النازحون أو اللاجئون البقاء في الأماكن الحالية.
*باحث اعداد الباحث بالمركز الديمقراطي العربي
قائمة المراجع
أنتوني غدنْز،علم الاجتماع” مع مدخلات عربية” ترجمة فايز الصُيّاغ، (بيروتمركز دراسات الوحدة العربية)، أكتوبر 2010
الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم، (الدوحة مركز الجزيرة للدراسات،) 2013
عبده مختار موسى، دارفور من أزمة دولة إلى صراع القوى العظمى، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة 2009.
عادل شالوكا،المناطق المهمشة في السودان، ” كفاح من أجل الأرض والهوية
مأمون طربيه، علم الاجتماع في الحياة اليومية“قراءة سوسيولوجية معاصرة لوقائع معاشه”(بيروت دار المعرفة)
دور كهايم إميل، تقسم العمل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، (بيروت، المكتبة الشرقية، 1986)
[1]الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الازمة بعد عقد من الزمان،تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2013)، 189
[2]نفس المرجع، 190
[3]نفس المرجع، 191
[4]عبده مختار موسى، دارفور من أزمة دولة إلى صراع القوى العظمى، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2009،) 200
[5]الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الازمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات،) 2013، 189
[6]عادل شالوكا،المناطق المهمشة في السودان، ” كفاح من أجل الأرض والهوية” 134، 135
[7]الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الازمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات،)2013، 202
[8]مأمون طربيه، علم الاجتماع في الحياة اليومية “قراءة سوسيولوجية معاصرة لوقائع معاشه”(بيروت، دار المعرفة،) 39
[9]الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الازمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2013،) 204
[10]إميل دور كهايم، تقسم العمل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، (بيروت، المكتبة الشرقية، 1986)، 66
[11]أنتوني غدنْز،علم الاجتماع” مع مدخلات عربية” ترجمة فايز الصُيّاغ، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أكتوبر 2010،)، 159
[12]أنتوني غدنْز،علم الاجتماع” مع مدخلات عربية”ترجمة فايز الصُيّاغ، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أكتوبر 2010،)،74
[13]الطيب زين العابدين محمد وآخرون، دارفور حصاد الازمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2013،) 214
[14]نفس المرجع، 224
[15]نفس المرجع،226
[16]نفس المرجع، 207
[17]نفس المرجع، 209
لمحة عن الباحث: عبد الله أحمد جلال الدين محمد – تاريخ النشر 14 – 5 –
2017
المؤهلات العلمية.
مسجل في معهد الدوحة لدراسات العليا لنيل درجة الماجستير في علم الاجتماع والانثروبولوجيا.مسجل في جامعة أم درمان الإسلامية كلية الدراسات العليا لنيل الماجستير في علم الاجتماع بالبحث بعنوان (النمو السكاني بولاية الخرطوم وأثارة الاجتماعية والثقافية)بكالوريوس علم الاجتماع من جامعة أم درمان الإسلامية
الخبرات العملية:
مساعد تدريس بجامعة أم درمان الإسلامية – كلية الآداب قسم علم الاجتماعمساعد مسجل كلية الآداب (2014-2015م)مساعد مدير المكتبة الأكاديمي، جامعة أم درمان الإسلامية